أحبت مصر وعشقت حضارتها الضاربة فى أعماق الزمان، وبادلها المصريون حبا بحب فأطلقوا عليها العديد من ألفاظ التكريم التى لا يطلقونها إلا على من يحبونه مثل: البشوشة والشيخة ونور على نور. أنها الليدى جوردون الإنجليزية التى ولدت فى 24 يونيو 182م لأبوين من الطبقة العليا فى إنجلترا، وبالرغم من أنها لم تذهب إلى المدارس إلا قليلا لكنها قرأت كل ما كان يمكنها قراءته من كتب فى مختلف مجالات المعرفة فأصبحت على درجة عالية من الثقافة والإلمام بالعلوم، فقد كان لأسرتها أصدقاء من كبار المفكرين مثل بنتام وجون ستيورات ميل وونستون سميث. أصيبت الليدى جوردون بالسل الذى لم يكن قد اكتشف له دواء حتى ذلك الوقت فأمضت عاما فى كيب تاون بجنوب أفريقيا، ولكنها بعد ذلك نصحت بالذهاب لمصر فعاشت فى القاهرة لمده عام ثم ارتحلت إلى الأقصر التى استقرت فيها السنوات الاخيرة من عمرها لدرجة أنها فى إحدى رسائلها لزوجها والتى ترجمها الأستاذ أحمد خاكى تقول «حين أجلس الآن مع الإنجليز أشعر وكأنهم أجانب بالنسبة لى، وهكذا فإنى أشعر الآن تماما بأنى بنت البلد هنا». تأتى أهمية رسائل ليدى جوردون فى أنها تقدم وثيقة للتاريخ الاجتماعى فى شكل رائع فهى تصور حياة الناس وعاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم وعلاقاتهم المتشابكة سواء مع الحكومة القائمة أو فيما بين بعضهم البعض، خصوصا المسلمين والمسيحيين، فهى فرصة ومحاولة جادة لكتابة تاريخ الناس الذين يستحقون الكتابة عنهم لأنهم بالفعل صناع التاريخ. وهذه الرسائل عبارة عن مادة خام على الباحث أن يقوم بتحليلها واستخلاص النتائج منها، ويزيدها أهمية أنها بعيون غريبة امتلكت ملكات الفحص والتمحيص والقدرة الهائلة على الملاحظة والتحليل والنقد، وتتركز هذه الرسائل حول أحوال الصعيد فى الفترة من 1869 1862م وهى فترة ذات أهمية خاصة لأنها تبدأ بتولى الخديو إسماعيل السلطة وتنتهى بافتتاح قناه السويس. حاولت ليدى جوردون الغوص فى أعماق المجتمع المصرى ووصف ما تراه فوصفت الفلاحين الذين يزرعون الأرض وأحوالهم وطرق زراعتهم والأدوات المستخدمة فيها، وطرق معيشتهم، كما وصفت الصيادين وكيفية ممارستهم للصيد. وذهبت للموالد وصاحبت المتصوفة وأعجبت بالأذكار، وناقشت العديد من المتصوفة فى أفكارهم، وهاجمت مدعى الولاية الذين يقفون عراة بشكل يثير الاشمئزاز، والناس من حولهم يتبركون بهم بحجة أنهم يعلمون الغيب. وحاولت الربط بين المعتقدات المصرية القديمة وبين ما تراه شائعا فى زمنها. ووصفت الاحتفالات بالموالد خصوصا مولد النبى (صلى الله عليه وسلم) وتحدثت عن أعياد الاقباط وعاداتهم وعلاقاتهم بالمسلمين. ووصفت عمل الإرساليات التى بدأت عملها فى أسيوط وهاجمتها ليدى جوردون وقالت: «إن محاولة تحويل المسلمين عن دينهم محاولة سخيفة بل وقد أضافت إلى ذلك أنها محاولة خاطئة». وفكرت مع معلمها الشيخ يوسف الذى كان يعلمها اللغة العربية أن يقوما بتأليف كتاب عن الإسلام للأوروبيين حتى يفهموا الإسلام فهما صحيحا وبالتالى يستطيعون التعامل مع المسلمين. تحدثت كذلك عن الرقيق وخصوصا الأفارقة الذين يقوم قراصنة من الأوروبيين بخطفهم وبيعهم وهى هنا تميز بين الأفارقة الذين لا يبيعون أولادهم وبين الشراكسة الذين يبيعون أولادهم فى الأسواق حتى يؤمنوا لهم عيشا حلوا رغدا. ووصفت أحوال المرأة ومعيشتها وزواجها، وأمنت بما جاء فى القرآن من قوامة الرجل وفهمت هذه القوامة من أنه على الرجل أن يقوم للمرأه التى يتزوجها بكل حاجاتها، وأن للمرأة المسلمة شخصية ذاتية تستطيع معها أن تمتلك وأن تكسب، ووصفت الحريم التركى: «وليس هناك شىء ألطف من الحريم التركى، فهو من هذه الوجهة أرقى ما يمكن أن يتصوره الإنسان» وعندما اتهمها البعض بأنها متوحشة لأنها توافق على نظام الحريم، دافعت عن ذلك واتهمت الغرب بأنه يستمد معلوماته عن هذه الموضوعات من مصادر غير دقيقة». وصفت الأوبئة التى أصابت الصعيد مثل الطاعون البقرى الذى وقع فى ربيع 1864م وما تسبب عنه من نفوق الماشية، وعسر أحوال الفلاحين الذين اضطروا للاستدانة بفوائد فاحشة، وموقف الحكومة، ووصفت المرابين اليونانيين الذين عملوا على تخريب الريف المصرى بالربا الفاحش ووصفت ألاعيب هؤلاء المرابين. كما تحدثت عن القسوة فى جمع الفلاحين للسخرة، وكذلك فرض الضرائب الباهظة، وتذكر رد فعل الناس فى قولها: «والسخط يزداد يوما بعد يوم ففى الأسبوع الماضى كان الناس يستنزلون اللعنة على الباشا فى شوارع أسوان، ويتحدث الجميع علانية عما كانوا لا يفكرون فيه إلا سرا».