علي عبدالرازق : الإسلام دين روحاني .. عبارة من وحي غيري!! طه حسين يشن هجوما ضاريا على سعد ورفاقه ثم ينضم إليهم! كتابات العشرينات .. دعوة للفرعونية ورفض وحدة الدين والقومية زوجة طه حسين ساهمت بفرنجته ولم تتعرب! "قادة الفكر" يمتدح الاستعمار الغربي بصوره النيابة تثبت أن "الشعر الجاهلي" سخر من العقيدة وشكك بها "مستقبل الثقافة" : نحتاج ملزمون بحضارة أوروبا العلمانية وحكمها! كتابات الثلاثينات .. طه يهاجم فرنسا ومحاولات التبشير .. ويدعو لتحكيم الإسلام! طه حسين يمتدح مؤسس "الوهابية" ويشبهه بالنبي محمد! عميد الأدب يبارك ثورة يوليو .. ويقود "مجانية التعليم" الإسلام لا يعرف "دع ما لقيصر" .. والمستعمرون سفاحون من الحجاز : الإسلام أقدس الأوطان .. وغرور العقل يعمي البشر في كتاب ملحق بمجلة "الأزهر" العدد قبل الأخير، أزاح المفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة النقاب عن العديد من نصوص طه حسين الإسلامية والوطنية التي كتبها في مراحل متفرقة من حياته، ولم تندرج تحت تراثه المتداول بين أروقة مؤسسات الثقافة في مصر لسبب غير معلوم. كما يقارن المؤلف بين تلك النصوص لجلاء تناقضات عنيفة تعرض لها عميد الأدب العربي في أفكاره ومواقفه، من درويش في رحاب أوروبا داعيا لقبول الشرق الانصياع والهزيمة الكاملة أمام الغرب حكما وتشريعا وثقافة، وانتهاء بمحارب يزود عن هذا الدين ودولته وتشريعه ، ويفند مزاعم الاستعمار والمستشرقين! أما لماذا خرج هذا الكتاب ، فيؤكد عمارة أن الكثير من الذين تعصبوا لآراء طه حسين الجدلية، وقدموا أنفسهم باعتبارهم تلاميذه، قد اكتفوا بكتابات التي مثلت مرحلة انبهاره بالنموذج الحضاري الغربي ، ومنها كتب "في الشعر الجاهلي" و"مستقبل الثقافة في مصر" ، وهو نفس ما قام به أشد خصوم طه حسين بالمناسبة، فجاء الكتاب ليتلمس من خلال كتابات طه حسين نفسه، وليس تأويلاتها، مراحل تطوره الفكري . الشيخ طه يلفت الكتاب لتمرد طه حسين المبكر على مناهج الأزهر ، وحرمانه من نيل الشهادة العالمية، وهو ما حدا به للالتحاق بالجامعة الأهلية المدنية سنة 1908، وعُرف بتأثره بمناهج النقد الاستشراقية، ومن الجامعة نال درجة الدكتوراة عن رسالته "تجديد ذكرى أبي العلاء" سنة 1914م . وارتبط طه حسين ب"حزب الأمة" بزعامة أحمد لطفي السيد، وفي صحيفة "الجريدة" هجا مصطفى كامل رئيس الحزب الوطني ولم يسر بجنازته ! ثم قادته علاقته بالشيخ عبدالعزيز جاويش لصحافة الحزب الوطني حتى عام 1914م . في هذه الفترة كتب طه حسين عن الدستور والحكم النيابي وتحرير المرأة وتحكيم القرآن ، وهاجم المنفلوطي والرافعي وحافظ وشيوخ الأزهر، لمواقفهم المحافظة. حتى لقد ادعى أن المسلمين تاريخيا قد اتخذوا الجنس لا الدين جامعة لهم معمما هذا الادعاء حتى على الخلافة الراشدة ممتثلة في عمر بن الخطاب ويرد عمارة بأن عمر بن الخطاب كان يلح على أن العزة إنما هي بالإسلام، وأن المدن التي مصرها مثل الكوفة والبصرة والفسطاط لم تكن جيتو للأمة العربية وإنما كانت معسكرات للجند كي لا يذوبون في الحياة المترفة ويبتعدوا عن مهمتهم بحماية الثغور . الغريبة أن تلك المرحلة شهدت تناقضا في كتابات طه حسين، فمن صحف حزب الأمة الليبرالي والحديث عن مصر الفرعونية وطابعها البعيد عن أي انتماء لعروبة أو إسلام، لجريدة "الهداية" لسان الحزب الوطني المحافظ، والحديث عن القرآن ككتاب "عبادات وقانون وحكمة وتشريع " أو ما كتبه سنة 1911 بأن "حدود المرأة هي ما حدها دين الله" وأن رقي المسلمين لا يجيء بغير عودة للدين، بل لقد ذهب لتحريم زواج المسلم من كتابية أوروبية ، لما يمثله ذلك من مخاطر على دين الأسرة والتربية للأبناء! وقد ناقض ذلك فيما بعد بزواجه من فرنسية مسيحية. في هذه الفترة التي يسميها الكتاب مرحلة الشيخ طه حسين، إبان الحرب العالمية الأولى، كان كاتبنا ذو موقف وطني معارض للحكومة المصرية بقيادة بطرس غالي التي مدت امتياز شركة قناة السويس الفرنسية ، وعندما هنأ الشيخ عبدالعزيز جاويش بمناسبة خروجه من سجن الاحتلال سنة 1909 ، وبالطبع يلفت مؤلف الكتاب إلى أنه لم يعثر في ثماني مجلدات تمثل تراث طه حسين وأوراقه ومراسلاته بدار الكتب على آثار طه حسين الأولى ، ووجد ضالته بكتب مثل "طه حسين الشاعر" لمحمد كيلاني. ومن جامعة السوربون التي سافر إليها مبتعثا ، حصل العبقري طه حسين على الدكتوراة عام 1917م عن رسالته "فلسفة بن خلدون الاجتماعية" التي أكد فيها على عظمة الإسلام، دينا ودولة، لكنه كان العام نفسه الذي تزوج فيه ب "سوزان برسو" الفتاة الفرنسية التي ملكت عليه وجدانه، والتي دعمت توجه زوجها التغريبي ولم تنجذب هي للعروبة أو الإسلام، وحولت أسماء أبناءهما ويقال أن الابن "مؤنس" أو كما نادته "كلود" حائز الدكتوراة في تأثير الأدب العربي على الفرنسي، رحل في فرنسا وهو على ديانة أمه! ناهيك عن سكرتيره المسيحي الفرنسي، كما نقل محمد عمارة عن صلاة طه حسين في مسجد القرويين سرا خلال زيارته للمغرب كما نقل المؤرخ التازي للمؤلف! قادة الفكر .. الغربيون! لقد عاد طه حسين من فرنسا لمصر سنة 1919 مبهورا بكل ما هو غربي ثائرا على كل ما هو شرقي ففي السياسة اختار أن يكون لسان حال أحزاب الأقليات التي تنكرت لمقاصد ثورة 1919 وليكون المهاجم على حزب الوفد وزعيمه سعد زغلول حتى لقد حققت معه النيابة سنة 1924 بسبب ذلك . وفي الفكر عاد رافضا لمشروع التجديد والإحياء الإسلامي الذي كان يمثله الأستاذ الإمام محمد عبده، بعد أن كان معجبا به كل الإعجاب، ورأى أنه حمل نصوص الإسلام أكثر مما تحتمل كي يجعلها تتفق مع العلم الحديث . ونجد بكتابه "قادة الفكر" أن قادة الفكر العالمي ليس فيهم إلا الغرب، فقد بدأ الفكر الإنساني بالفلسفة اليونانية ،ولم يكن ظهور المسيحية والإسلام بالشرق في العصور الوسطى إلا جملة معترضة عادت بعدها السيادة للفلسفة اليونانية في العصر الحديث! بل لقد طلب طه حسين من الشرق الاعتراف بالهزيمة أمام الغرب اليوناني، وإلقاء السلاح والتسليم للمظهر الغربي تسليما، وتحدث عن فلسفة أفلاطون وأرسطو باعتبارها قمة تطور الفكر الإنساني، بغير أن يقدم أي نقد لبعض الأطروحات الطوباوية والعبثية التي تضمنتها فلسفتهما، مثل زوال الأسرة وتربية الدولة للأبناء ، كما جحد طه حسين لتراث علماء المسلمين الأوائل الذين تدين أوروبا في نهضتها لهم بالفضل، كابن سينا أو الرازي، وغيرهم، ولم يشر من قريب أو بعيد للنقد الإسلامي للتراث اليوناني الذي قدمه بن تيمية والشافعي وبن سينا وعلماء غربيون أيضا . يزيد على ذلك أن طه حسين زين القوة الاستعمارية، واعتبر أن الاسكندر الأكبر المتوفي في 323 ق. م ، بين قادة الفكر البارزين، وأنه كان يغزو الأراضي الشرقية تمهيدا لغزو العقول، وفتحها، وتنويرها، متجاهلا النقد المسيحي الشرقي للقهر الديني والحضاري الذي صنعه الإغريق والرومان بالشرقيين، وتنكيلهم للمسيحية الشرقية حتى أن الكنائس تؤرخ بعيد الشهداء الذين ذبحهم وأحرقهم وأغرقهم الرومان في أتون الاضطهادات، واعتبر طه حسين أن علاقة اليونان بالشرق هي "المشاركة الحضارية" في الفلسفة واللغة ، ثم تناسى تماما سبعة عشر قرنا قبل ظهور الإسلام، وقرون عديدة بعده مثلت حلقات لهجوم الغرب على الشرق، بضراوة، وبينها حلقات مؤسفة كالحروب الصليبية. معركة الإسلام وأصول الحكم في كتاب الشيخ علي عبدالرازق "الإسلام وأصول الحكم" اعترف طه حسين بنفسه بأن صاحبه كان يقرأ فصوله عليه ويتركها له لينقح فيها بفضل الصداقة العميقة التي ربطتهما، فدأب طه حسين على إدماج أفكار علمانية تماما على الكتاب، لم يكن المؤلف يقصدها منذ البداية ، والدليل أن الشيخ علي خلال محاكمته ، أكد أنه يعتقد أن الإسلام دين تشريعي، وإنه يجب على المسلمين إقامة شرائعه وحدوده، وإن الله خاطبهم جميعا بذلك ! بل لقد دافع علي عبدالرازق سنة 1946 وهو عضو بمجلس النواب وأثناء عرض مشروع بقانون خاص بالوقف، دافع عن التشريع الإسلامي، وحذر من تمزيق الفقه الذي هو الرابطة الأقوى بين الأمم الإسلامية! وفي 1947 م أصدر الشيخ علي عبدالرازق كتابه عن "الإجماع في الشريعة الإسلامية" وكل ما في الكتاب مناقض لدعوى الروحانية المحضة للشريعة الإسلامية، وأكد لاحقا بمجلة "رسالة الإسلام" أن عبارة " رسالة الإسلام روحانية فقط " لم تكن رأيه يوم نشر كتاب "الإسلام وأصول الحكم" ! الكتاب جعل شريعة الإسلام روحية محضة لا علاقة لها بالسياسة أو الإدارة، وصور الخلافة الإسلامية التي هي في حقيقتها نظام مدني مرجعيته الشريعة الإسلامية ، باعتبارها كهانة كنيسة فقال "إن الخليفة عند المسلمين يقوم في منصبه مقام الرسول (ص) وينزل من أمته منزلة الرسول بالمؤمنين فولايته كولاية الله تعالى" مضيفا أن " هذه الخلافة حتى في عصرها الراشد لم ترتكز إلا على القوة الرهيبة" مؤكدا أن محمدا ما كان إلا رسولا لدعوة دينية خالصة غير مشوبة بشيء من الحكم. وبالتأكيد كانت تلك الأفكار شائعة بعد سقوط الخلافة الإسلامية وتحطيم وعاءها بعد الحرب العالمية الأولى . زلزال "الشعر الجاهلي" تفجرت القضية الثالثة في عدوان طه حسين على المقدسات الإسلامية، وهي قضية كتاب "في الشعر الجاهلي" الذي نشره حسين سنة 1926م ، ففي هذا الكتاب عبر طه حسين عن قمة الانبهار بالغرب، والتماهي مع مناهجه، فقال : "إن عقلنا غربي وإن عقليتنا نفسها قد أخذت منذ عشرات السنين تتغير وتصبح غربية.. " بل وذهب لتطبيق شكه على عقائد إسلامية وردت بها آيات محكمات في الإعجاز القرآني وهو الأمر الذي فجر واحدة من أعنف المعارك في حينها. ومن أمثلة ذلك، يشير الدكتور محمد عمارة، لجحود طه حسين للوجود التاريخ لأبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام ، ولابنه اسماعيل، عليه السلام، والرحلة الحجازية التي قاما بها، وإقامتهما قواعد البيت الحرام، وأولية الإسلام في الجزيرة العربية، وعلاقة الإسلام بملة إبراهيم ، فاعتبر ذلك حيلا وأساطير ! وراح يشكك بنسب النبي للهاشميين، واعتبرها سيرة بشرية اقتنع بها الناس في حينها. لكن ، وعلى أية حال فقد اعترف طه حسين في نص فرنسي ترجم ونشر بعد وفاته أنه انتهى لرفض قدر كبير من "الشعر الجاهلي" لما فيه من تشكيك ببعض المعتقدات التي ذكرت في القرآن والأحاديث النبوية. الكتاب صدرت مئات الرسائل والكتب ردا عليه، وتصدت زعامة الأمة ممثلة في سعد زغلول باشا رئيس مجلس النواب يومئذ قائلا لطلبة الأزهر المتظاهرين :"إن هذا الدين متين ، وليس الذي شك فيه زعيما ولا إماما حتى نخشى من شكه على العامة، فليشك من شاء. وماذا علينا إذا لم يفهم البقر؟!" وفي 19 أكتوبر سنة 1926م بدأ رئيس نيابة مصر "محمد نور الدين" التحقيق مع الدكتور طه حسين في البلاغات التي تقدم بها طلاب الأزهر وعلماؤه وشيخه الأكبر ضد ما جاء بالكتاب ، وانتهى قرار النيابة لحفظ الأوراق إداريا لأن القصد الجنائي غير متوفر، لكن القرار تضمن التأكيد على أن الكاتب اعتدى بغير شك على نصوص القرآن و"سلك طريقا مظلمة"، بخلاف ما يتناقله الوسط الثقافي الآن بأن النيابة انتصرت للمؤلف .. وهدأت المعركة بسحب الكتاب من المكتبات وحذف منه طه حسين السطور الأكثر حدة في العدوان على القرآن والإسلام ، وبعد أن كتب بيانا أرسله إلى مدير الجامعة أحمد لطفي السيد يعلن فيه أنه لا يزال مسلما ثابت الإيمان وأن دروسه بالجامعة خلت خلوا تاما من التعرض للديانات لأنه يعرف أن الجامعة لم تنشأ لمثل هذا. فرعونية مصر .. وعلمانيتها مع مطلع حقبة الثلاثينات كتب طه حسين في مجلة "الهلال" عدد إبريل سنة 1931م "إن مصر اليوم هي مصر بالأمس، أي مصر الفراعنة، والمصري فرعوني قبل أن يكون عربيا، فلا تطلبوا من مصر أن تغير فرعونيتها، وإن مصر لن تدخل في وحدة عربية حتى ولا اتحاد عربي" .. "ومع أن الدين العربي واللغة العربية مقومان أساسيان للحياة المصرية الحديثة .. فإن الدين لا يصلح أن يتخذ أساسا للوحدة" وفي كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" ، اعتبر طه حسين أن استقلال مصر عبر معاهدة 1936م لا يتعدى الاستقلال السياسي والتحرر من الامتيازات الأجنبية، لكن الإلزام لبلادنا بأن تسير سيرة الأوربيين في الحكم والإدارة والتشريع وأن تتماهى مع الحضارة الأوروبية في كل مكوناتها حلوها ومرها، بقي . ونحن مصريون وطنيون لكننا في الحضارة أوربيون! ويرد محمد عمارة بأن في ذلك مجافاة للحقائق الثابتة تاريخيا، فقد أثر الإسلام وفتوحاته بشتى البقاع التي دخلها، باعتراف أهلها، ونستمع مثلا للمؤرخ كريستوفر داوسون حين يؤكد بمطلع القرن العشرين أن "محمدا هو إجابة الشرق على تحدي الإسكندر، فقد أسس الدولة الكبرى التي أصبح لها ثقافتها الخاصة وحضارتها في مواجهة الهلنستية بوجه عام" ثم ذهب طه حسين إلى أن حضارتنا الحديثة يجب أن تكون علمانية كما هو الحال في الحضارة الأوروبية ، متجاهلا الفروق بين حضارتنا العربية الإسلامية وبين الحضارة الغربية القائمة على العلم الحديث وتناقضه الشديد مع اللاهوت الكنسي، في حين نتأمل كلمات الإمام مالك بن أنس "93- 179ه - 712- 759م" التي قالها فيها : "إن ديننا هذا علم، وعلمنا هذا دين" ، كما شهد علماء الغرب بالاتساق بين القرآن والعلم التحول التدريجي شهدت الثلاثينات بداية توجه طه حسين للكتابة عن الإسلاميات، وأسهم في الدفاع عن الدين ضد المنصرين والبهائيين داعيا للتجديد الديني، وبرزت مقالاته عن العدالة في الإسلام ، بل وغير من قناعاته السياسية فتوجه لحزب الوفد وكتب عن وطنية زعيمه سعد زغلول ،كما شهدت تلك الحقبة انتقال طه حسين بشدة إلى موقف العداء الشديد لصدقي وحكومته، بعد أن كان يدين له بالولاء وفي عام 1932 أقرت لجان مراجعة كتابه "في الأدب الجاهلي" بأن المؤلف أضاع الوحدة القومية للمسلمين وإيمانهم بتواتر القرآن وقراءاته واعتقادهم في صدق القرآن وتنزهه عن الكذب ، وفي نفس العام قررت حكومة صدقي فصل طه حسين من وظيفته بالجامعة ، لكن تلك الأزمة كما يرى مؤلف الكتاب كانت الرحم الذي شهد مخاض تحول طه حسين البطيء نحو الانتماء الأوضح للإسلام، لقد أدرك أن السير في طريق تحديه للرأي العام "عمل أحمق وشرير" وفقا لمذكرات زوجته. سنجد طه حسين يكتب بعدها عن فرنسا التي ترفع شعار الثورة والمؤاخاة ثم تستعبد الشعوب، وثم في كتابه "على هامش السيرة" يؤكد أن هناك أشياء قد لا يدركها العقل، وينتقد الغرور الذي يزين للإنسان أن يغل الطبيعة بقوانينه القاصرة ، وهو يشير للمعجزة الكبرى "القرآن" الذي هو ليس شعرا أو نثرا وإنما كتاب فصلت آياته من لدن خبير، وليس لأحد أن يأتي بمثله وفي مجلة المقتطف ، نجد أن طه حسين كتب عن حرمة الربا، وانتقد البرلمان وشيخ الأزهر الظواهري لإقرارهم إيداع أموال الأزهر والأوقاف في البنوك بفوائد وإيرادات، وأضاف : "أليس نهي الدولة والأفراد والأزهر والأوقاف عن الربا آثر عند الله عز وجل، وأحب إليه من مصادرة كتاب الخطيب البغدادي "تاريخ بغداد" لأن فيه نقدا لأبي حنيفة!" وفي معركته ضد مدارس التبشير للمسيحية في مصر، طالب بإغلاق تلك المدارس، واتهم شيخ الأزهر ب"النوم العميق" وهاجم الحكومة التي تصمت خشية غضب الإنجليز! وبعدها عام 1934 تجده يتصدى لفتنة البهائيين فكتب في صحيفة الوادي الوفدية أن ذلك عبث بالقرآن المقدس، واعتداء على الدستور التي تحمي نصوص الإسلام من التحريف. الغريبة أيضا، ما يقرأه محمد عمارة، بمجلة "الهلال" 1933، عن ثناء طه حسين على الحركة الوهابية وصاحبها الراحل في 1792م، ووصفه بأنها تشبه الدعوة المحمدية الفطرية البسيطة، وخاصة أنه ترك السياسة ومغانمها لآل سعود، وتفرغ للدعوة بعد أن تفشت الجاهلية في نجد والجزيرة العربية من جديد ! ولم يجد بأسا في الحرب وإعمال السيف التي كان يشنها بن عبدالوهاب على المخالفين غير المنصاعين! كما أثنى على ما تركه هذا المذهب من أثر يجده إيجابي على الحياة العقلية والأدبية عند العرب، فقد استدعى الصراع الفكري بين الوهابيين وخصومه الرجوع لكتب التراث ليؤيد كل منهم مذهبه ، فانتشرت كتب بن تيمية وبن القيم واستفاد العالم الربي كله من هذه الحركة العقلية الجديدة . واستدعى الدكتور محمد عمارة وثيقة منشورة بتراث طه حسين الجزء الرابع أيضا، يتحدث فيها طه حسين عن أن دعوة "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله" لا تناسب العقل الإسلامي حيث أن الإسلام جعل سلطان قيصر مستمدا من الشعب، والشعب سلطانه مستمد من الله، وبالتالي فالسياسة أصلا من أصول الدين، ويرفض فصل رجال الدين عن رجال السياسة، حيث أن أوروبا بها أحزاب دينية سياسية كثيرة وأساقفتها معنيون بالسياسة جدا . كما أكد بمقال في صحيفة "النداء" عام 1947 أن "الإسلام بنى دولة خالدة" بعد أن كان ينكر في كتبه التي أصدرها بالعشرينات أن الدين لا علاقة له بالدولة والأوطان. وفي كتابه الوعد الحق 1949 تتراجع الأساطير التي ميزت سابقه "على هامش السيرة" وتبرز حميمية علاقة طه حسين بقصص صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم. إشراقات رحلة الحجاز يرى الدكتور محمد عمارة أن ثورة يوليو دشنت لمرحلة حاسمة من التطور الفكري لطه حسين، عميد الأدب ، فقد كان سعيدا بها وكان أول من أسماها "ثورة ضد الملك" وكتب ذلك صراحة بالصحافة، كما رحب بالإصلاح الزراعي معتبرا أنه يحقق إنصاف المحرومين، ودعا لنظام جمهوري يميل للبرلماني، ودعا للتعجيل بجلاء الإنجليز عن مصر، وانتصر لأفكار الثورة من مجانية تعليم وعدالة ، وساهم بكتابة دستور 1954 ضمن لجنة الخمسين برئاسة السنهوري، وترأس تحرير صحيفة "الجمهورية" الناطقة بلسان الثورة. أيد طه حسين سياسة ناصر ضد الأحلاف العسكرية الاستعمارية وإسرائيل وأمريكا ، ودعم سياسة مناصرة حركات التحرر الوطني العربية خاصة بمراكش وتونس والجزائر، واصفا المستعمرين الفرنسيين بأنهم "لصوص سفاكي دماء" ، وحين وقع العدوان الثلاثي على مصر 1956 ، رد طه حسين وسام الجوقة الذي منحته فرنسا إياه. لكن طه حسين ظل ينتقد الميثاق الوطني الذي يدعو لاشتراكية تشبه كثيرا الماركسية البحتة ، وإغفاله لدور المفكرين والمثقفين بين ثورتي 1919 و1952 . لقد كتب طه حسين في مجلة "الهلال" سنة 59 أن اللغة العربية والدين الإسلامي ورسول هذا الدين هم أركان العروبة والقومية العربية ، وأكد أن المسلمين لم يفرضوا على بلد فتحوها لغتهم ودينهم وثقافتهم، لكن شيئا فشيئا بدأت أمة عربية تتشكل . وردا على الدكتور عبدالرحمن بدوي الذي نادى بمساواة المرأة بالرجل في كل شيء، دعا طه حسين عام 1953 إبان مداولات لجنة الخمسين لوضع الدستور الجديد ، ل"ضرورة حاكمية القرآن الكريم والنصوص الدينية على الدستور والقوانين" وهو نفس ما ذهب إليه في كتابه "الفتنة الكبرى" والذي أكد فيه أن فتوحات المسلمين لم تكن غزوا، وكان هدفها الهداية وليس التغلب والجباية، ونفى عن الخلافة الإسلامية أن تكون نظاما ثيوقراطيا يستمد سلطانه من الله وظله على الأرض وهو الخليفة، ولكن نظام يعتمد على البيعة التي يمنحها الشعب طواعية لحاكمه، فإذا أخطأ قوموه، كأي بشر، على عكس نظام الحكم المطلق الذي عانت منه روما وأثينا. وبرأي المؤلف، فقد شكلت الرحلة الحجازية التي قام بها طه حسين 1955م، قمة الإياب الروحي لأحضان الإسلام، وذكر طه حسين أنه شعر "بعودة النفس الغريبة لموطنها" وأبدى عدم رضا عن أعمال قدمها من قبل وأهمها "الشعر الجاهلي" ، ويورد الكتاب خطبة شهيرة ألقاها طه حسين بالحجاز حيث قال أن الإسلام هو الوطن المقدس للمسلمين، قبل أوطانهم، في غير مجافاة للغات والأوطان، مؤكدا أن الغرب مدين للأصول العربية الخصبة التي نقل منها العلوم والفكر لأوروبا في القرون الوسطى المظلمة، داعيا المسلمين للانفتاح في ذات الوقت على كل الروافد الثقافية بدون أن تستأثر بهم الثقافة الغربية وتنسيهم جذورهم . وفي كتابه "مرآة الإسلام" و"الشيخان" سنجد رفض قاطع لشطحات التأويل الباطني للقرآن، والتصوف الاستشراقي، ونقد لإقحام الفلسفة في الدين وهو ما قاد المعتزلة لنفي الصفات الإلهية، وظنهم أن العقل يستطيع الإحاطة بكل شيء، كما انتقد غرور أبي العلاء المعري العقلي وشكه السخيف في وجود الله. . وعاد لينتقد كتابه "مستقبل الثقافة" وأكد إيمانه بأنبياء الله وسيرتهم الواردة بالقرآن، ودافع عن رموز الإحياء الديني كالشيخين محمد عبده وجمال الأفغاني، ودعا لتطبيق مصادر التشريع الإسلامية وليس الغربية الأوروبية، التي كان قد نادى بها في كتاباته السابقة، وهي القرآن والسنة الصحيحة وإجماع الصحابة والفقهاء والاجتهاد المقبول . وتوفي طه حسين ومصر مشغولة بأحداث حرب أكتوبر سنة 1973م يوم عيد الفطر 28 أكتوبر ودفن في القبر الذي أوصى أن يحفر عليه دعاء مأثور يأتي في مقدمته "اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَأوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَأوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ، أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ"