طه حسين- بنصوصه هو- يعلن عن تطوره الفكري، وعن مراجعاته، بما ينصفه من المتعصبين له، والمتعصبين ضده. هذا كتاب، لن يجد فيه القارئ أثراً يذكر لما كتب الآخرون عن طه حسين، سواء منهم المتعصبون له، أو المتعصبون ضده، وإنما سيجد نصوص طه حسين ذاته، طيا للجدل العقيم حول إبداعاته، ولسحب البساط من تحت أقدام أسرى التغريب والعلمانية والغزو الفكري، الذين يتمسحون بهالات هذا الرجل العظيم.. وليتعلم «الإسلاميون» المنهاج العلمي في دراسة تاريخ الأفكار، فيستردون الرموز، بدل التفريط فيها، حتى يزداد ثراء الساحة الفكرية الإسلامية، بدلاً من المنهاج الإقصائي الأخرق. تلك هي رسالة كتاب «طه حسين.. من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام» للمفكر الدكتور محمد عمارة، والذي صدر كملحق مع العدد الأخير من مجلة الأزهر. وقد قدم الدكتورعمارة دراسة علمية، تتناول مراحل التطور الفكري للأديب الكبير د. طه حسين، وتكشف ملامح المرحلة الأخيرة بالذات. ويرى المؤلف أن المرحلة الأخيرة من حياة طه حسين (المولود فى1889 وتوفى فى1973) كانت أهم مراحل حياته، إلا أنها لم تلق الاهتمام الصحيح، وتغافل عنها زالمعجبون به والكارهون له على السواءس. ويقسم الكتاب التطور الفكري الذي مر به طه حسين إلى أربع مراحل: المرحلة الأولى: هي بداياته الفكرية (1908-1914) التي بدأت بالتحاقه بالجامعة الأهلية المصرية، وانتهت بسفره إلى فرنسا عام 1914م، مبعوثا من الجامعة المصرية لنيل درجة الدكتوراه من جامعة السوربون. لقد بدأ طه حسين، في هذه المرحلة، مترددا في الهوية الحضارية لمصر، بين مذهب «حزب الأمة» ومفكره أحمد لطفي السيد، الذي يدعو إلى الوطنية المصرية الرافضة للعروبة القومية والانتماء الحضاري الإسلامي، واتجاه «الحزب الوطني» وزعيمه مصطفى كامل، ذي الهوية الإسلامية، والمدافع عن الجامعة الإسلامية والخلافة. وفي المرحلة الثانية «مرحلة الانبهار الشديد بالغرب»: كان إعجاب طه حسين بكل ما هو غربي، والسعي إلى إلحاق مصر بالنموذج الحضاري الغربي، وفيها ظهرت كتبه التي أثارت جدلا واسعا، ومنها مشاركته في تأليف كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ علي عبد الرازق، ثم كتابه «في الشعر الجاهلي» الذي اتسم بتأثر مستفز بالأفكار والقيم الغربية، عندما طبق غلو «الشك العبث»» على المقدسات الإسلامية، ثم كتابه «في الأدب الجاهلي». وكان حسين مندفعا في الانبهار بالفكر الغربي والحضارة الغربية، خاصة بعد رحلته الباريسية، متنكرا لتراثه الإسلامي، وطاعنا في ثوابت دينية عظيمة وجليلة، ومثيرا لشبهات حول القرآن الكريم، ومتحدثا عن أن الحضارة المصرية هي حضارة فرعونية وليست عربية إسلامية، وأن طريق النهضة أن نسير سير الأوربيين ونتبع طريقتهم.. ويشير المؤلف إلى أن أهم تطور فكري في تلك الفترة نتج عن زواج طه حسين في فرنسا من فتاة فرنسية مسيحية، أقنعها عمها القسيس بالزواج منه، فكانت عينه التي يقرأ بها، وأثّرت كثيرا في قناعاته الفكرية. أما المرحلة الثالثة: فقد بدأت عام 1932 واستمرت حتى عام 1952، وقد أطلق عليها «مرحلة الإياب التدريجي والمخاض الحافل بالتناقضات»، وفيها خلت كتابات طه حسين من أي إساءة إلى الإسلام ومقدساته ورموزه، وتوجه ضمن كوكبة من كبار الكتاب، إلى الكتابة في الإسلاميات، والدفاع عن الإسلام ضد التنصير وفي السياسة الإسلامية وعلاقة الدين بالدولة، وتوالت تأكيداته على شمول الإسلام للدين والدولة كمنهاج شامل للحياة، كما تصاعدت نبرة نقده للسياسة الاستعمارية الغربية، مع صعود حركات التحرر الوطني. ورغم ذلك ظل التأثر بالطابع الحضاري الغربي ملحوظا في عطائه الفكري، وخاصة في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» 1938م، الذي مثّل ذروة التأثر بالغرب في مشروعه الفكري. ثم تأتى المرحلة الرابعة والأخيرة (1952-1960) والتى يعتبرها الدكتور عمارة «مرحلة الإياب والانتصار الحاسم للعروبة والإسلام» وتتجسد أهم ملامحها في تأكيد طه حسين على «حاكمية القرآن الكريم» وانحيازه إلى العروبة التي صاغها الإسلام بعيدا عن الفرعونية التي تبناها من قبل. ويشير عمارة إلى أهمية رحلة طه حسين إلى الأراضي الحجازية عام 1955. واذا كانت الرحلة الحجازية بمثابة الاياب الروحي لطه حسين فقد كان كتاب «في مرآة الإسلام» الذي صدر 1958 تجسيدا للإياب العقلي والفكري الذي ختمه في عام 1960 بتأليف كتاب «الشيخان» عن أبي بكر وعمر. وكشف في هذا الكتاب عن ألوان من اعجاز النظم القرآني، وأن مصادر التشريع هي القرآن والسنة والإجماع والاجتهاد.. وقال إن القرآن دين وشرع، يشرّع للمسلمين ما ينفعهم في الدنيا ويعصمهم من عذاب الآخرة، وأن الاسلام أقام أمة سياسية، مصدر السياسة فيها هو الإسلام.. كما أقام دولة؛ قانونها القرآن الكريم والسنة النبوية . وكان كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» الوحيد من كتب طه حسين الذي كان يرفض إعادة طبعه طوال حياته، مؤكدا أنه لم يعد يصلح بحاله، وأنه يحتاج إلى تصحيح وتنقيح ومراجعة . تُوفي طه حسين يوم عيد الفطر في 28 أكتوبر 1973م... ودُفن في القبر، الذي أوصى أن يحفر عليه هذا الدعاء النبوي الذي كان أثيراً إلى قلبه قريباً من لسانه: «اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض، لك الحمد، أنت قيوم السموات والأرض، ولك الحمد، أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت. أنت إلهي لا إله إلا أنت».