لم تعرف مصر منذ تأسيس نظامها الجمهورى تداولًا سلميًّا للسلطة، وكان الثابت المشترك بين كل نظمها هو غياب الديمقراطية الكاملة، ولكن كل نظام عرف مساحة «منوّرة».. فرغم أن عهد الزعيم عبد الناصر عرف نظام الحزب الواحد، وغابت التعددية السياسية ودولة القانون والديمقراطية، كانت هناك عدالة اجتماعية، وكانت أهم تجربة تصنيع فى تاريخ مصر المعاصر، وقادت مصر تجارب التحرر الوطنى، وحضرت ثقافيًّا وسياسيًّا فى محيطها العربى والعالم بصورة غير مسبوقة. وفى عهد الرئيس السادات عادت التعددية السياسية والحزبية، ولاحت من بعيد الديمقراطية، واستعادت مصر سيادتها على سيناء باتفاق تسوية غير شاملة مع إسرائيل، وظهرت بدايات التفاوت الاجتماعى فى مصر، ومظاهر للرأسمالية غير المنتجة. وجاء عهد الرئيس مبارك الذى اتسم بالتسامح مع المعارضة، واتساع هامش حرية الصحافة والتعبير، وبُنِيَت قاعدة صناعية رأسمالية منتجة، وظل البقاء الطويل لمبارك فى السلطة مع مشروع التوريث سببًا فى اعتراض الكثيرين على سياساته. كل هذه النظم التى تراوحت بين الاشتراكية والرأسمالية، وبين التعددية الحزبية المقيّدة والحزب الواحد، كانت الانتخابات فيها حدثًا قوميًّا يهتم به الناس ويشاركون فيه بحماس، إما لأسباب سياسية، أو عائلية، أو دفاعًا عن مرشح «ابن بلد»، أو نائب خدمات لم يكن يعجبنا وقتها، لكنه كان ينجح بدعم قطاع من الناس والتفافهم حول «جدعنته»، أو لأنه موجود فى الأفراح وفى واجبات العزاء، لا أن يهبط عليهم بماله ويصبح نائبًا وهو فى بيته. كان المواطن يشعر فى الانتخابات التى جرت طوال عهد مبارك (باستثناء انتخابات 2010 التى سبقت ثورة يناير) أنه يختار مرشحه وينتخب، حتى لو كان يعلم أن البرلمان لن يغير حكومة، ولن يسحب الثقة من وزير. لا أحد يختلف على أن قاعدة العملية الانتخابية فى مصر منذ إعلان نظام التعددية المقيّدة فى 1976 قامت على ضمان أغلبية الثلثين لحزب الدولة الحاكم، وهو ما لم يحُل دون وجود انتخابات تنافسية وفق النظام الفردى. وفى المرات التى اعتُمد فيها النظام المختلط؛ أى نظام القوائم النسبية والفردى، كانت أيضًا تشهد منافسات حامية جذبت قطاعًا واسعًا من المواطنين، على أساس حزبى وسياسى، أو تنافس بين عائلات فى كثير من القرى والنجوع. إن الأغلبية المضمونة فى الانتخابات التشريعية لأحزاب الدولة والموالاة لم تحُل طوال الفترة الماضية دون أن تكون هناك انتخابات تنافسية تجذب المواطنين للمشاركة فى العملية السياسية والانتخابية، وتعوض ضعف الأحزاب وغياب المحليات. أخطر ما يجرى حاليًّا مع دخول «موسم الانتخابات» أن الناس باتت غير مهتمة بالعملية الانتخابية، وأن ثقتها فى جدواها تراجعت بصورة واضحة، وهو أمر مقلق؛ لأن المفروض أن الانتخابات تكون فرصة لكى يُخرج الناس قناعاتهم، حتى لو كانت خاطئة، وتظهر على السطح وفى العلن.