طرح هذا السؤال فى اللقاء التحضيرى الذى نظمته مكتبة الإسكندرية فى الأسبوع الماضى بالاشتراك مع المنتدى العالمى للأبحاث الزراعية فى إطار الحوار الشمالى الجنوبى للبحر المتوسط. وهو اللقاء التحضيرى الثانى للمؤتمر الذى سيعقد فى منتصف العام القادم فى ميلانو بإيطاليا والمخصص لطرح موضوع »المجتمعات الريفية فى أوقات التحول، المنسيون«، وهو بالفعل موضوع هام، حيث أن صراعات مراحل التحول قد تتناول العديد من الموضوعات السياسية العامة التى تتسم بالفوقية والعمومية مثل الدستور والتشريع والتغيرات الهيكلية والمجالس النيابية والتغيرات الديمقراطية العامة، وهى كلها هامة وضرورية لمرحلة التحول، إلا أنها فى أحيان كثيرة تترك وراءها موضوعات مهمة أخرى منها موضع التطور الريفى فى كل هذه الصراعات وكيف نتناول قضاياه التى تمس الأرض والمياه والإنسان القائم على تفعيل العنصرين معا أى الأرض التى تزرع والمياه التى يحتاجها الإنتاج الزراعي. لم يتناول اللقاء قضايا الأرض والمياه والفلاح من الجانب الزراعى الخالص وإنما تناول العناصر الثلاثة على أساس أنها عناصر تشكل أهمية خاصة للتطور الريفى المطلوب. فقضية الريف لا تنحصر فى أنها قضية التطوير الزراعى الذى يصب فى سلة الغذاء، بحيث تزيد وتتسع، وأ نما هى أشمل من ذلك بكثير لأنها تتصل بالواقع الريفى فى مجال التعليم والصحة والبناء الفكرى والسكن والطرق وتطوير الإنسان ذاته ليس فقط كمزارع نحتاجه لملء سلة الغذاء هذه وإنما لأنه إنسان ومواطن له ذات الحقوق الإنسانية وذات حقوق المواطنة التى هى للإنسان القاطن الحضر ذى الصوت العالى والامتيازات الحياتية المتميزة بعض الشيء. كما أن اللقاء لم يتناول الموضوع الريفى المصرى بمفرده وإنما تناول موضوع المجتمع الريفى على المستوى العربي، ذلك لأن مشكلات المجتمع العربى مع ريفه تتشابه كثيرا إن لم تكن متوحدة فى بعض العناصر. فإنتاجية المجتمعات الريفية العربية تنخفض كثيرا عن متوسط إنتاجية المجتمعات الريفية العالمية مما يجعل المجتمعات العربية تعتمد على استيراد نسبة عالية من غذائها. أن المجتمع الريفى العربى هو المجتمع الذى ينتج الغذاء بالرغم من أن أفراده المنتجين وأطفالهم يعانون أكثر من الفقر وسوء التغذية. فنسبة فقراء الريف فى مصر تصل إلى 30% من سكانه بينما تصل نسبة سكان الحضر الذين يعانون من السمنة المرضية إلى 34%. وتتكرر ذات الظاهرة فى الأردن وفى لبنان. فى لبنان ترتفع نسبة أبناء الحضر الذين يعانون من السمنة المرضية إلى 30% بينما تصل نسبة فقراء الريف إلى 10%. بما يعنى أن المشكلة لا تنحصر فى تراجع إنتاج الغذاء وإنما يصاحب ذلك التراجع الانتاجى تراجع شديد آخر فى التوزيع العادل للموارد الغذائية. ومنها أن معدلات فاقد الإنتاج الزراعى فى المجتمع العربى تفوق معدلات الفاقدعالميا بسبب سوء وسائل الاتصالات التى تربط هذه المجتمعات الريفية بالأسواق الداخلية أو الخارجية أو بسبب تراجع فكرة التصنيع الزراعى فى هذه المجتمعات. ومنها أن المجتمعات الريفية العربية لا تحتفظ بالعقول التى تنشأ وتتربى وتتعلم فيها. فالملاحظة أن الهجرة من المجتمعات الريفية لا تضم دائما الشباب المتعطل أو المعدمين من المزارعين الذين لا يجدون عمل وإنما تضم كذلك خريجى التعليم من أبناء الريف. ويمكن القول أن إستنزاف العقول لا يتم فقط من الدول الكبرى للدول الصغيرة وإنما يحدث هذا الاستنزاف من الحضر للمجتمعات الريفية. وتنتج هذه الظاهرة من استمرار تلك الفجوة التى تفصل الحضر عن المجتمعات الريفية فى نوعية الحياة. أن المؤسسات الاجتماعية الموجودة فى الريف سواء الطوعية أو غيرها ضعيفة للغاية. أن الهجرة من الريف للحضر تبدأ دائما فى إطارها الذكورى إلى أن تستقر الأمور للمهاجر الداخلى فى موقعه الجديد ثم تتحول الهجرة لتصبح هجرة عائلية. أن الأرض فى المجتمعات الريفية العربية تتراجع فى مساحاتها بجانب تراجع مساحات الحيازات الزراعية. وبجانب العاملين الأخيرين، تتراجع جودة الأرض ذاتها مما يؤثر فى كم الغذاء المنتج. أن المجتمعات الريفية العربية تحتاج إلى سياسات جادة مستدامة للحفاظ على الثروات الطبيعية التى تشكل العناصر الأساسية لوجودها مثل الأرض والمياه والبيئة الصحية. أن المجتمع العربى بشكل عام يمر بحالة من إقصاء المجتمعات الريفية فى حين أن المطلب الأساسى لنجاح مرحلة التحول هو رسم سياسات لإستيعاب المجتمع الريفى فى السياسات الاجتماعية التى لابد أن ترسم من القاعدة وصولا للقمة. فالمطلب الملح الآن هو تمكين تلك المجتمعات لتتحول إلى رصيد أساسى لمرحلة التحول هذه وليس العكس. فالهدف النهائى هو كيف نجعل الريف أكثر مشاركة فى الحياة وأكثر جذبا للبشر وللعمل ذاته. إننا كمجتمعات عربية نحتاج الآن إلى تمكين عنصرين بشريين أساسيين فى المجتمع الريفى وهما الشباب والمرأة. فتطوير المجتمع الريفى ذاته لابد أن يتم بالتخطيط والمشاركة من الجميع فى رسم المستقبل فى حين يتم التنفيذ ذاته بسواعد وعقول كل سكانه. لقد قدرت المنظمات الدولية أنه بحلول عام 2015 قد ترتفع معدلات الهجرة الداخلية بحيث يستوعب الحضر فى عدد كبير من الدول نسبة 70% من السكان, فى هذه الحالة ستستمر نسبة 30% من السكان فى المجتمعات الريفية مما سيزيد العبء على الحضر، كما أن الزراعة ستخسر أكفأ البشر القادرين على ملء سلة الغذاء فى كل البلدان. كما إن قضية البطالة فى صفوف الشباب ليست قضية عربية فحسب ولكنها قضية عالمية لذاعلينا، كبلدان تحيط بالبحر المتوسط الاهتمام بشباب الريف وبإحداث التطوير اللازم لهذا المجتمع لجعله دائما منتجا وقادرا على الاحتفاظ بشبابه. وفى هذا الشأن لم تعد الحكومات قادرة وحدها على إنجاز هذه العملية وإنما بجانبها لابد أن يقف القطاع الخاص ومعه منظمات المجتمع المدنى وبجانب كل هذه الجهات الثلاث لابد من تواجد البشر الريفيين ذاتهم من رجال وشباب وإناث. فمشاركة الناس فى التعرف على مشاكلهم ووضع الأولويات لها ثم المشاركة فى التنفيد برامج الإصلاح والمتابعة والإشراف هو الطريق السليم لتمكين الريفيين واستيعابهم فى عملية التحول السياسية الهامة التى تمر بها بعض البلدان العربية. مهما كلفنا ذلك من جهد، مع الأخذ فى الإعتبار أن هذه العملية ذات مردود اقتصادى واجتماعى هائل. لابد من احترام الصحراء بحيث لا نزرع فيها تلك المحاصيل التى تستنزف مياهنا الجوفية ونستبدلها بزراعات أخرى تلائم طبيعة الصحراء. بعد كل ذلك لابد من التفكير الجدى فى رسم سياسات تقود إلى تنظيم التعاونيات والزراعات التعاقدية التى باتت الآن، فى العديد من البلدان، مؤسسات اقتصادية كبيرة تنظم المزارعين وتخطط للزراعات وتهتم بتعليم وتدريب سكان المجتمعات الريفية وتدفع بالتصنيع الزراعى والتنوع المحصولى وتجعل من المجتمع الريفى كيانا اقتصاديا واجتماعيا مستقرا يساعد على تحسين الحياة وتحقيق نوعيتها.