استمرت العشوائيات السكانية التي أحاطت عددا من عواصمنا الحضرية مادة للدراسة والتحليل الاجتماعيين والصحيين لعقود زمنية بعد أن نمت نموا متسارعا عددا ومساحة وسكانا. وكانت في الأصل من سكان الريف الذين لا يعرفون إلا مهنة الزراعة أو تلك الحرف البسيطة الملحقة بها, وأحيانا كانوا يمتهنون مهنة المعمار. في البدايات, وكان ذلك في نهايات العقد الستين وبدايات عقد سبعينيات القرن الماضي, جري الحديث عنها علي أنها مجرد تجمعات صغيرة لمواطنين قادمين من الريف تحت ما يسمي بالهجرة الداخلية التي قد تكون دائمة للبعض القليل وقد تكون مؤقتة للبعض الآخر, تتبعها عودة إلي موطن الأصل. ومع استمرار تحول الهجرة إلي هجرة دائمة ظهرت العشوائيات ونمت وتبلورت كظاهرة,. فاتخذت الدراسات مسار التحليل لظاهرة اجتماعية متزايدة ثم متعاظمة. وأكثر من ذلك اتسعت الدراسات لتتشابك مع دراسات أخري جرت في بلدان أخري تقع غالبيتها في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وإن اتخذت في البلدان الأوروبية طبيعة أخري خاصة لأنها لا تضم عناصر الهجرة الداخلية وإنما تضم عناصر الهجرة الوافدة من الخارج. ولم تخف هذه الظاهرة علي المجتمع الدولي فقد تم العبور عليها في مؤتمرات التنمية وكذلك البيئة. وسواء تمت مناقشتها محليا أو عالميا فإن ظروف وأسباب نشأتها وتركيبتها الاجتماعية والأخطار المترتبة علي إهمالها واحدة لا تتغير سواء كانت في إفريقيا أو في آسيا أو في أمريكا اللاتينية. والسبب الرئيسي لنشأتها هو عدم التوازن في توزيع الاستثمارات المولدة لفرص العمل وبالتالي الدافعة للنمو أو للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلدان التي تظهر وتنمو فيها ظاهرة العشوائيات. وبتعبير آخر التوزيع غير العادل في التوزيع الجغرافي والقطاعي لمشاريع النمو أوالتنمية. ويعني التوزيع غير العادل أن توجه الاستثمارات في الحضر دون الريف وأن توجه هذه الاستثمارات للصناعة والخدمات دون الزراعة أو أن يزداد التوجه الاستثماري للقطاع الكبير تاركا الوحدات المتوسطة والصغيرة دون عناية تذكر, بحيث تتمركز البؤر الاقتصادية المولدة لفرص العمل في مواقع بذاتها تبعد عنهم فيتحرك إليها المواطنون الفقراء الباحثون عن العمل والرزق. وحدث ذات الشيء في الصين البلد الذي يعرف بأنه من بلدان آسيا الصاعدة والواعدةوأحد مكونات مجموعة البركس. في الصين تركز النمو الاقتصادي الهائل في شرق البلاد في الصناعة والخدمات. في حين تم تحرير الأرض دون تطوير الزراعة. في هذه الحالة الصينية هاجر ملايين الفلاحين الصينيين من الغرب الفقير إلي الشرق المتسارع النمو. قيل في إحدي الدراسات إنه في عام واحد في بدايات القرن الحادي والعشرين نزح مائة مليون فلاح تاركين قراهم وساعين إلي فرص الاسترزاق واستقروا حول المراكز الاقتصادية النامية في الشرق الصيني. لذا ارتبطت دائما المطالب الهادفة إلي تطوير العشوائيات بالمطالب الهادفة إلي تجفيف منابع ظهورها من جديد. خاصة إن تكلفة تطويرها دائما ما تكون عالية. عادة ما تفوق تكلفة تطويرها تكلفة عملية بناء أي تجمع سكاني جديد مساو لها في المساحة وفي عدد السكان. وإذا عدنا إلي الدراسات التي جرت علي ظاهرة العشوائيات في مصر لابد من العودة إلي قسم الاجتماع بكلية آداب جامعة عين شمس, حيث قاد الدكتور إسحاق حنا بداياتها الأولي ثم مركز البحوث الاجتماعية والجنائية حيث كانت الدكتورة نادية حليم الأستاذة بمركز البحوث الاجتماعية والجنائية من الدارسين للحالة المصرية. وكذلك لابد من العودة إلي قسم الأبحاث بالجامعة الأمريكية وخاصة الدراسات التي أجرتها الدكتورة هانية الشلقامي عن جانب من ذات الظاهرة. الخلاصة أن في مصر دراسات هامة جدا تستطيع الحكومة الاستناد إليها وهي تقترب من مشروع تطوير العشوائيات. خاصة وأن تطوير هذه التجمعات البشرية لا يحتاج إلي الاستثمارات المالية الموجهة لبناء المساكن فحسب قدر احتياجه إلي سلة سياسات تبدأ بالاقتصاد لتمر بالثقافة والقيم والعادات( وخاصة ما يتعلق بظهور العنف). الملخص أن الدولة وهي تتجه إلي هذا التطوير فإنها تحتاج إلي ثلة من الخبراء متنوعي الخبرات والتخصصات توفيرا للوقت وترشيدا للتخصيص المالي وتوزيعه. لذلك عندما تعلن الحكومة عن خطتها لتطوير العشوائيات في27 محافظة وخاصة العشوائيات المحيطة بالقاهرة والتي يصل عددها إلي112 عشوائية بنسبة45% من مجمل عدد العشوائيات في مصر فإننا نري أن تستكمل الحكومة عملها بالتخطيط لتجفيف المنابع التي, في حالة استمرارها, ستقود إلي نشأة عشوائيات جديدة غير تلك التي يتم التخطيط الآن لتطويرها. فتطوير العشوائيات الحالية ضرورة إنسانية واجتماعية لابد للدولة أن تتقدم لتحمل مسئوليتها ولكن عليها في ذات الوقت أن تخطط من أجل عدم تكرارها في المستقبل.ولا يكون ذلك بمنع الهجرة الداخلية التي يلجأ إليها الفقراء الريفيون بحثا عن لقمة عيش لا يجدونها في قراهم أو في مواقع إقامتهم الريفية وإنما بالتخطيط لتحقيق عدالة توزيع مواقع النمو أو التنمية. في حالتنا المصرية تصبح المهمة الأساسية هي بداية تطوير الريف وقراه, ومصدر دخله الوحيد إلي الآن وهو الزراعة. فالسير في الطريقين سويا, تطوير العشوائيات وتطوير الريف وقراه وزراعاته, لابد من التخطيط لهما في ذات الوقت. وقد تكون خطة التطوير المزدوجة هذه طويلة الأمد ولكن البدء فيها بأسلوب علمي متدرج سيرسم الطريق الصحيح لجانب من قضية التوزيع السكاني في مصر. ولا يوجد عاقل يتصور أن قضية العشوائيات ستصل إلي حلولها النهائية في عام أو في عامين أو في ثلاثة أعوام. فكل الذي يطلب الآن من الحكومة هو وضع التخطيط والإعلان عن مراحله وخطواته ثم البدء في تنفيذه. ستعطي البداية, مجرد البداية,في التنفيذ الأمل في التطوير علي الجبهتين الحضر الفقير العشوائي والريف وقراه وزراعاته. وفي مجال تطوير الريف وقراه وزراعاته تملك مصر المئات من الخبراء الذين قدموا الدراسات الميدانية التي رسمت الطريق إلي الوصول إلي الحلول المطلوبة. وهي دراسات عديدة ومتنوعة تبنتها منظمات دولية مع الوزارات المعنية بالتنمية المحلية والزراعة المصرية, وسوف تساعد كل هذه الدراسات, بما تقدمه من حلول, في أن تسهم في وضع بدايات سد منابع الهجرة الداخلية, إراديا, بحيث لا يضطر الفقراء إليها بحثا عن فرص التقاط الأرزاق من الأعمال الهامشية التي توجد حول المراكز الحضرية الكبيرة. وبذلك تكون مشاريع تطوير ما هو موجود بالفعل من عشوائيات ذات جدوي حقيقية دون توقع نشأة توابع جديدة. فالأخذ بمنهاج البناء علي الخبرات المستفادة الموجودة بالفعل سيوفر أي جهد جديد قد يفكر البعض في البدء فيه متجاهلا ذلك التراكم المعرفي الموجود حاليا تحت أيدينا. لمزيد من مقالات أمينة شفيق