كنت قد أشرت فى مقالى السابق إلى تجارب دول العالم المختلفة حول تطبيقات الفكر المالى المعنى باعادة توزيع الدخل القومي، وهل انتهى هذا التطبيق إلى إعادة التوزيع الدخل القومى فعلا فى مصلحة الطبقات الفقيرة مثل أمريكا وكندات؟ أم فى مصلحة الطبقات الغنية كما هو الحال فى الدول الإسكندنافية. واليوم أكمل الفصل الأخير من السياسات المالية المعاصرة، المتبعة فى باقى دول العالم الاقرب للحالة المصرية فى التكوين الهيكلى للبنيان الاقتصادي, لتحديد مدى فاعليتها فى تحقيق إعادة التوزيع فى مصلحة الطبقات الاكثر احتياجا، عملاً وليس فلسفةً، ومدى ملاءمة هذه السياسات لمصر فى ظل الظروف الراهنة. فبعض الدول مثل روسيا والصين وفرنسا والمانيا وايطاليا, على سبيل المثال وليس الحصر ، تستخدم السياسة المالية بصورة أكثر عمقاً وذلك بغرض إحداث تحول مجتمعى واضحاً لمصلحة محدودى الدخل والفقراء، وهنا نشير إلى فاعلية الضريبة التصاعدية وضرائب التركات فى تحقيق هذا الهدف الاجتماعي. وقد اعتمدت هذه الدول على الضرائب المباشرة رغم قلة حصيلتها ابتداءً، أكثر من الضرائب السلعية (أى غير المباشرة)، وذلك لما لها من أثر واضح على المدى الطويل من تأثير فى إعادة توزيع الدخل القومى للتخلص من التكوين البنيانى الطبقى المحتكر والمستغل لموارد الدولة, هذا بالإضافة الى انها اكثر عدلا من غيرها من انواع الضرائب الاخري.إلا أن مثل هذه السياسات وحدها لا يكفى لتحقيق «مبدأ تكافؤ الفرص». ولذلك ورغبة فى إقرار هذا المبدأ, لجأت هذه الدول الى اجراءات أكثر عمقاً مثل الحد من الملكية الخاصة لوسائل الانتاج وإعادة توزيع الثروة القومية، ومنع الممارسات الاحتكارية وتوسيع مبدأ المنافسة المنضبطة..... الخ. وقد يتصور البعض أن هذا الفكر يرجعنا الى لغة الاشتراكية الماركسية , لا وعلى العكس تماما, هذا الفكر يطبق فى فرنسا والمانيا ودول أخرى كما ذكرت، يعترف باختلاف الدخول والثروات ويحمى الملكية الخاصة، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة. مع التسليم أيضاً بضرورة تفاوت الأجور والمرتبات (حسب الانتاجية الحدية للوحدة محل العمل) بصفتها باعثين قويين للنشاط الاقتصادى (الخاص والعام) ولكن أخذ هذا الفكر بعدا أخر وهو عدم الابقاء على التفاوت الكبير جداً فى الدخول وذلك لاعتبارات العدالة الاجتماعية فى إعادة توزيع الدخل القومي, والتوازن الاجتماعى اللازم لتحقيق السلام الاجتماعى فى تلك الدول. وبالإضافة الى ذلك تستخدم تلك الدول الضرائب كوسيلة لتوجيه الاستهلاك على الوجه التى تحدده الخطة، وتوجيه جزء من الدخل القومى للاستثمار، أى اعتبار الضرائب أداة لإحداث التوازن بين الاستهلاك والانتاج وتوجيه التنمية الاقتصادية للبلاد نحو الافضل, وعدم تركها لعشوائية للقرارات الاستثمارية غير المتفقة مع خطط الدولة للتنمية المستدامة. وهذا ما يعرف «بالفن المالى الحديث» لدور الضرائب والانفاق العام فى الاقتصاد الحر. وهى النظرية التى «تحدد قيمة السلعة بكمية العمل»، من خلال عملية تحديد الثمن عند مستوى أعلى من قيمة العمل، بمعدل ربح مقبول للمنتج وسعر مقبول للمستهلك والذى يعرف «بالثمن العادل». وباستكمال الجزء الثانى وهو الانفاق العام من خلال إعادة توزيع الدخل القومى ليس فقط بين الفئات الاجتماعية، وإنما تتم أيضا بين فروع الانتاج المختلفة أو بين مختلف عواملها، أو بين الأقاليم المختلفة للدولة، وهو ما له من دلالة اجتماعية مهمة جداً, راعتها تلك الدول فى إعادة التوزيع, حتى لا يحرم أحد فى أنحاء الاقليم من الخدمات العامة، مثلما هو الحال فى مصر الآن, والذى يجب ان تعمل الحكومة على مراعاته بدقة فى توزيع المنافع العامة على المحافظات لتحقيق التوازن الاجتماعى السابق الذكر. وعلى ما تقدم اليوم وفى السابق من دراسة شاملة لأغلب دول العالم ونظم الفكر المالى فيها، يمكن أن نخلص إلى أنه مع انتشار النزعات «الاقتصادية الوسطي» (لا رأسمالية ولا اشتراكية) اصبحت سياسة إعادة توزيع الدخل القومى لمصلحة الطبقات تذات الدخول المحدودة والفقيرة تشكل سنداً قوياً لاتجاه الضرائب والنفقات العامة فى أغلب دول العالم إلا أنها جميعاً فى النهاية تصب فى نتيجة واحدة وهى تقليص الفوارق بين الطبقات وتوسيع مساحة الطبقة الوسطى فى المجتمع، تلك الشريحة التى تشكل القوة الضاربة فى أى اقتصاد وتسهم فى المقام الأول فى دفع عجلة التنمية الاقتصادية والنمو الحقيقي. إلا أن مصر وخلال الأربعين عاماً الماضية قد تضاءلت فيها هذه الشريحة وكادت تنعدم، الأمر الذى ينذر بخطر اقتصادى أكثر منه سياسى أو اجتماعي. اقتصاديات الدول المتقدمة لا تقوم على الأغنياء ولا الفقراء فحسب، بل تعتمد فى المقام الأول على الطبقة الوسطى (والتى تعرف بمجتمع الملايين) فى تحقيق التنمية المستدامة، لأن هذه الطبقة هى وحدها صاحبة الطلب الفعلى المحرك لاقتصاديات الدول. فأين هذه الطبقة الوسطى المحورية اذاً فى مصر الآن؟!, إن وجدت, وجد التوازن الاجتماعي, وإن فقدت, فقد هذا التوازن. عسى أن تسترجع مصر الطبقة الوسطى فى أسرع وقت حتى يستقر السلام الاجتماعى فى مصر, وتتحقق العدالة لمجتمع الملايين. لمزيد من مقالات د. أيمن رفعت المحجوب