"صمت خانق كان يخيم على مدينة طهران ، لم يكن أحد يجرؤ على أن ينبس ببنت شفة، وكان الجميع يهاب بعضهم من بعض؛ الأسر تخاف من أبنائها، والأطفال من معلميهم، والمعلمون من عمال المدارس، والعمال من الحلاق والمدلك .. الجميع يخشى نفسه ويجزع من ظله، في كل مكان .. في البيت والمكتب ، والمسجد والدكان، وفي المدرسة والجامعة والحمام. كان الجميع يعتقد أن عملاء المخابرات يتعقبونهم. في السينما، أثناء عزف النشيد الملكي، كان الجميع ينظر إلى ما حوله، مخافة أن ينهض مجنون أو أرعن ويجلب المشكلات والمتاعب للجميع. صمت رهيب ذلك الذي كان يخيم على جميع أنحاء البلاد ، الكل كان يظهر نفسه راضيا، لم يكن للصحف ما تنشره غير كيل المديح للديكتاتور، الناس متعطشون للأخبار، وينشرون سرا أكاذيب مبالغا فيها ! من كان يجرؤ على أن ينعت علنا شيئا بالسوء؟ وهل من الممكن أن يكون هناك شيء سييء في الدولة الشاهنشاهية؟.. وكل من انكشف له سقوط النظام الديكتاتوري في عالم الرؤيا ، وتمنى سقوطه يزج به في السجن، شيخا كان أو طفلا في سن العاشرة، فقيها كان أو من العوام، ومن شمالها وجنوبها، كان الاعتقال يطول طالب المدرسة، كما يطول الوزير والنائب. يعتقل أحدهم بتهمة التحدث عند الحلاق عن رسم كاريكاتوري للشاه نشر بصحيفة في فرنسا. ويعتقل الآخر بتهمة تبادل الأحاديث مع نواب دولة أجنبية... في ظل هذه الأوضاع توفي الأستاذ ماكان في العام 1938. كان أكبر فنان تشكيلي إيراني في السنوات المائة المنصرمة.” هكذا تبدأ رواية "عيناها" وتعنى جشمهايش بالفارسية للكاتب الإيراني بزرك علوي (1904 – 1997)، التي صدرت لأول مرة عام 1952 ، وصدرت ترجمة لها إلى العربية مؤخرا ضمن سلسلة إبداعات عالمية الكويتية، ترجمة الدكتور أحمد موسي، ومراجعة وتقديم الدكتورة زبيدة اشكناني. الأديب الفارسي مجتبى بزرك علوي ولد في اسرة متدينة وسياسية وشهدت حياته الطويلة – 93 عاما- فترات سياسية مهمة من أواخر الدولة القاجارية و فترة رضا شاه وابنه محمد رضا وأخيرا الثورة الإسلامية. وقد كان شاهدا على تغيرات سياسية واجتماعية هزت إيران من تبعية القاجار وديكتاتورية الشاه إلى صعود الحركة الوطنية بقيادة مصدق وقمعها. وقد فرضت السياسة نفسها على حياته منذ البداية فبمجرد عودته في عام 1928، من رحلة تعليمية في ألمانيا حيث تأثر بالأدب والفن الأوروبي وتخرج في جامعة ميونيخ، تعرف إلى الناشط الماركسي تقي آراني، واعتقل معه في عام 1937 بتهمة الضلوع في النشاط الشيوعي ، ليمضي في السجن أربع سنوات، ويخرج منه بعد نفي رضا شاه. أدبيا تأثر علوي كما تروى د. زبيدة أشكنانى بالتيار الذي مثله الإيراني صادق هدايت صاحب مسرحية "بروين بنت الساسانيين"، والذي شكل معه واثنان آخران ما أطلق عليه "عصبةالأربعة"، في مواجهة التيار الأدبي الكلاسيكي المحافظ الذي عرف باسم عصبة السبعة والذى تكون من سبعة أدباء إيرانيين من بينهم سعيد نفيسي وعباس رشيد ياسمي.. شهرة رواية "عيناها" وتفردها الذي يظهر من إصدارها هذا الأسبوع باللغة العربية من جديد – كما جاء في المقدمة التي كتبتها اشكناني – يرجعان إلى مخاطبتها وتصويرها الضمير الجمعي الذي كان يعاني من القهر والظلم ، وكان الروائي بزرك علوي من القلائل الذين عبروا عنه بوضوح وصراحة. الشخصيتان الرئيسيتان: الأستاذ ماكان الفنان التشكيلي المناضل المشغول بهموم الكادحين وبمشكلات وطنه السياسية والاقتصادية ، والذي يوظف فنه للدفاع عن قضايا الوطن ، وفرنكيس الفتاة الجميلة التي تنتمي إلى أسرة غنية تتعرف على الفنان المناضل الذي يكبرها سنا وينتمي إلى طبقة مختلفة بعد أن طلب منها والدها أن تتعلم الرسم على يديه. وتصدمها لامبالاته وعدم وقوعه تحت تأثير جمالها، ومن خلاله تكتشف أنها لا تمتلك أية موهبة حقيقية فتسافر إلى فرنسا للدراسة . لتعود وتلتقي ماكان مرة أخرى – من خلال الناشط اليساري خداداد - حيث تبدأ قصة الحب ، وتتخذ الرواية عنوانها من لوحة بورتريه يرسمها ماكان لحبيبته ويطلق عليها اسم "عيناها” .. وتبدأ فرنكيس بالعمل السياسي السري ، يتعرض ماكان للاعتقال، فتضحي بسعادتها وحبها ومستقبلها حين تطلب من رئيس دائرة الأمن أن يفرج عنه مقابل الزواج منه ، ويتم لها ما أرادت، فيطلق سراح ماكان لينفى إلى قرية نائية وتتزوج هي وترحل للعيش مع زوجها في أوروبا. شخصيات الرواية لها أصل في الواقع، فكثيرون يعتقدون – كما تشير اشكناني في المقدمة – أن ماكان هو الفنان الإيراني كمال الملك – واسمه الأصلي محمد غفاري (1849 – 1940) . وكذلك شخصية آرام الذي يعتقد أنه إيروم رئيس الشرطة في عهد رضا شاه، وشخصية خيل تاش وهو تيمورتاش ، وزير البلاط الشاهنشاهي آنذاك. "تدور أحداث الرواية في أوج ديكتاتورية واستبداد رضا شاه ووسط تغيرات سياسية ضخمة ، وتقوم بتصوير سلبيات المجتمع الإيراني ومشكلاته، حيث الأمية والخرافة والفقر والمحسوبية والفساد ، حتى أن تعلق البعض بمظاهر التمدن الغربي فشل في اقتلاع جذور الجهل والتخلف من ذلك المجتمع ، حيث كان يتعايش نموذجا التمدن الغربي والتخلف تحت سقف واحد ، كما كان الوضع في أسرة فرنكيس ، حيث كان الأب متشبثا بمظاهر الحضارة الغربية، بينما الأم مصرة على التمسك بأفكارها التقليدية..” وإلى جانب رسم الصورة السياسية لإيران في ذلك العصر وتوثيق نشاط اليسار الإيراني داخل وخارج إيران والعمل السري ضد الدكتاتورية آنذاك، اهتم علوي بتشريح المجتمع الحضري والريفي في إيران ذلك العصر ، كما رسم صورة لحياة الأسرة الإيرانية في ذلك الوقت والذي كان ممزقا بين عادات وتقاليد توارثتها الأجيال وبين الأفكار الحديثة التي دخلت على المجتمع ..