ما أن وصل الخليفة المعز لدين الله الفاطمى بر مصر...حتى دخل مباشرة إلى القاهرة حاضرته الجديدة التى أسسها قائده جوهر الصقلى، ليستقر فى قصره الشرقى الذى ضم 4000 حجرة على مساحة 70 فدانا. وبعدها بزمن كلف الخليفة قائده ببناء مقبرة لدفن رفات اجداده التى حملها معه إلى مصر فاختار لها «تربة الزعفران» مكان خان الخليلى الحالى. ورغم كل ولاء واجتهاد القائد جوهر، عاتبه الخليفة المعز- كما يقول المقريزى- لأنه فاته أن يؤسس القاهرة فى منطقة المقس, وهى منطقة ميدان رمسيس حتى بولاق حاليا, لأنها بالقرب من النيل. والغريب أن هذا العتاب سبقته أيضا مظلمة من الباطلية، وهم كما يقول عالم الآثار الكبير د. عبدالرحمن فهمى جماعة جاءت مع المعز، ولكنهم لم يحصلوا على نصيبهم من غنائم الحروب، فكانت مقولتهم الشهيرة «رحنا نحن فى الباطل». يبدو مشهد البداية مستغربا بين عتاب و تظلم ، الا ان كل هذه الأحداث لم تهم المصريين الذين سرعان ما عمروا المكان وخاصة فى المنطقة ما بين القصرين الشرقى الذى بناه القائد جوهر، والغربى الذى بناه العزيز بالله, كما تقول د سعاد ماهر فى «كتابها القاهرة القديمة وأحياؤها», فجعل بين القصرين ميدانا فسيحا يسع عشرة آلاف جندى. وانتشرت الشوارع و الأزقة والحارات, منها حارة الروم و برجوان و زويلة و الديلم, وهم قوم اتوا من الشام ,وحتى الباطليةومرجوش التى أطلق عليها المماليك التركمان اسم حضارتهم الأصلية. فهذه هى القاهرة التى كانت الجمالية بدايتها الحقيقية، و كانت أسوارها, التى أقامها بدر الدين الجمالى الأرمنى وزير الخليفة المستنصر،إضافة لمساحة جديدة للقاهرة قدرت بستين فدانا. أما أبواب القاهرة فلكل منها قصة, وأهمها باب زويلة الذى ينسب إلى قبيلة من البربر و كان شاهدا على اعدام طومان باى آخر حاكم مملوكى لمصر ، وباب المحروق الذى أحرقه بعض المماليك عندما علموا بقتل عميدهم اقطاى فى زمن شجرة الدر، وباب النصر الذى يبدأ منه محور الجمالية. هذه باختصار شديد افتتاحية لقصة الجمالية, سواء نسبت للوزير بدر الدين الجمالى أو جمال الدين الاستادار المملوك الطموح صاحب المدرسة الشهيرة. فالجمالية يعيش أهلها بين السماء والأرض: فمساجدها ومدارسها وخانقاواتها وكل ما يمس علاقة الناس بربهم كانت سببا رئيسا فى امتداد القاهرة، وأما الأرض فهى ما يعيشون عليها وتشهد على حياتهم وشكواهم. قصر الشوق و بين القصرين: هكذا ولدت وعاشت الجمالية بشياخاتها الثمانى عشرة, وأهمها برقوق وقايتباى وقصر الشوق والمشهد الحسينى والخرنفش و خان الخليلى، لتكون صاحبة الكلمة الأولى فى توسعات القاهرة. فظهرت «الخانقاوات» أو تكايا الصوفية, وأولها الصلاحية أو سعيد السعداء فى زمن صلاح الدين الأيوبى تأكيدا لغلبة المذهب السنى، فتعود أهل القاهرة ان يروا الصوفية وهم يتجهون كل يوم جمعة إلى جامع الحاكم للصلاة. والأكثر من هذا أن منطقة غرب الجمالية عمرت وهو ما منح فرصة ذهبية لجزيرة الروضة. بعدها أصبحت بين قادم وراحل، وبين قصر يشيد وآخر يهدم. ففى زمن المماليك حلت المدرسة الصالحية والظاهرية مكان القصر الشرقى الكبير ، و بنى جامع المنصور قلاوون و الظاهر برقوق محل القصر الغربى، لتبقى منطقة بين القصرين شاهدة على ما يحدث كما كتب أديبنا الكبير نجيب محفوظ. فهى مبتدأ الحديث الذى نعود إليه, بعد أن أُعلِن عن عودة الروح لمحور الجمالية ليصبح هو الآخر محمية آثرية مثل شارع المعز. من باب النصر: نبدأ من باب النصر، فالسلاطين لا يدخلون الا من باب النصر - كما قال لى د. محمد حسام إسماعيل أستاذ الآثار الاسلامية بجامعة القاهرة- حيث كانت تمر كل المواكب السلطانية حتى القرن التاسع عشر، ومواكب المحمل ورؤية هلال شهر رمضان والعيد. وفى العصر الفاطمى أقام صلاح الدين الأيوبى بهذا المكان لزمن وقت أن كان وزير آخر الخلفاء الفاطميين. وتوجد بالجمالية «سعيد السعداء» التى أصبحت أول خانقاه. والبناء الموجود حاليا يعود إلى زمن المماليك الجراكسة,لأن البيت الذى تحول إلى خانقاه غير موجود الأن. و لاننسى وكالة السلطان قايتباى والأمير قوصون مهبط تجار الشام. وهذا المكان يضم أيضا القبة الفاطمية، وخانقاه بيبرس الجانكشير التى كان من المفترض أن تستغل دينيا حيث كتب بها أبو الفضل العسقلانى مؤلفه الشهير «فتح البارى فى شرح صحيح البخارى»، كما أنه فى منطقة حوش عطا كان يسكن د. طه حسين . والمشكلة اننا لا ننظر إلى الآثار الاسلامية نظرة متكاملة فى وقت تتعرض فيه للانتهاك و التدمير. أول ما يسترعى الانتباه عند باب النصر هو تلك الاستعدادات لتأهيل الشارع . الا أن المشكلة -كما يقول حمدى حجازى مالك أحد المحال أننا نشعر وكأن المنطقة تموت ، فحركة البيع والشراء ضعيفة. ولهذا لا نعرف ما إذا كان تطوير الجمالية بجعلها كشارع المعز مفيدة لنا أم لا. فقبل نهاية الستينيات كان هناك ناس يعيشون فى الوكالات الأثرية ولكن كانت هناك مشكلات بسبب عدم وجود صرف صحى. والأن ازالوا بعض البيوت القديمة ولا أحد يعرف إذا كان المكان سيستغل فى السياحة. وعند جامع الشهداء تساءل مصطفى عبد السلام من سكان المنطقة عما إذا كان المكان يشهد تجديدات حقيقية و مفيدة لهم . فكثير من بالوعات الصرف تنخفض عن مستوى الشارع أو ترتفع عنه، وهو ما سيترتب عليه مشكلات أخرى على المدى القريب. كما أن وجود كارفان أو دورة مياه مقابل مكان أثرى يسىء إليه، وكان الأولى بهم نقله بعيدا عن مواجهة المسجد. وفى وكالة كحلا, التى تسكنها الآن جمعية فدا التابعة لصندوق التنمية السويسرى منذ ثمانى سنوات, تساءل الموجودون بالوكالة عما إذا كانت تجديدات الشارع يمكن أن تؤثر عليها، فعندما أغلق شارع المعز لزمن لم تعد الحال كما كانت عليها من قبل. وعند واجهة حوش عطا ,التى تحمل لافتتها الأثر رقم ,23 بدا المكان مغلقا يصعب الحكم عليه، وعلى بعد خطوات عند قمة حارة الدرب الاصفر تحدث هشام شعراوى من سكان المنطقة عن الترميمات التى جرت عام 2000، ولكن الآن بعد 14 عاما تآكلت الارضيات. كما أن الشارع الرئيسى من البازلت و الحارة اصلها من البازلت أيضا وليست من الطوب الحجرى. وما نحتاجه هو إعادة النظر إلى الحارة وتنظيم دخول السيارات، وخاصة أن معظم ورش الصناعات الثقيلة هجرت المكان، والموجود الورش اليدوية وهى لا تؤثر على الحارة. وفى خانقاه بيبرس «الجانكشير» الذى يعنى أسمه مستطعم أكل السلطان لضمان خلوه من السم، تلك الخانقاه التى وصفها المقريزى بأنها أجل خانقاه بالقاهرة، تحدث أحمد محمد إبراهيم عن انتهاء الترميمات منذ خمس سنوات، وإن كان الآن يوجد الكثير من الشروخ، فى حين يطالب الحاج محمد بوجود مجلس إدارة للمسجد ودار للمناسبات, وهى لن تضر بالأثر لأنه يوجد بالفعل مساحة بالخارج فى الشارع. وهى خدمة لأهل الحى حيث من المفترض الا تتجاوز مصاريف تأجير دار المناسبات أكثر من ثلاثمائة جنيه. والمسجد محلك سر، رغم أنه كان مكانا للاعتكاف فى نهاية شهر رمضان المعظم. ويكفى أن سيدى محمد البغدادى كان يعتكف به وهو عالم كبير. كما زار المسجد الرئيسان السادات وعبد الناصر، ويوجد مزولة قديمة لمعرفة الوقت تحتاج إلى صيانة.وهذه الخانقاه كانت تضم يوما مطبخا يوزع اللحم والحلوى فى زمن المماليك. وفى مدرسة وقبة الأمير قرانسقر المنصورى أو مدرسة الجمالية الابتدائية حاليا قالت نبوية على إن سكان الشارع يعانون من وسائل المواصلات، فلابد من إيجاد حل للوصول إلى الشارع لأن هناك مرضى وكبارا فى السن لا يمكنهم المشى من الحسين أو من شارع النصر. ويشاركها خميس عبد الستار -قهوجى -الرأى لأن الأمر يختلف عن شارع المعز، فهنا محال تجارية لا تعيش فقط على السياحة كما هو الحال فى شارع المعز، ولابد من وضع هذا فى الحسبان. استغاثة لرئيس الوزراء: وعند وكالة أودة باشى التى يطلق عليها السكان وكالة «بازرعة» أيضا يبدو المدخل المظلم مخالفا تماما عما يحدث فى الشارع، فعند واجهتها الكثير من الحديد والصلبات التى -بشهادة أهل الشارع- موجودة من خمس سنوات ولكن الداخل «خرابة» كما يقول صالح محمد على، والمشكلة اننا بين لجان تأتى للوقوف على وضع المكان وأخرى تذهب دون أى تقدم. ويتحدث أحمد محمد ندا أحد العاملين فى الورش عن اتفاق حدث بين أصحاب الورش وبين وزارة الثقافة فى زمن فاروق حسنى، حيث تم الاتفاق على أماكن بديلة و تعويضات مادية , ولكن كل شىء توقف و لم يخبرنا مسئول كيف نحل مشاكلنا. ويقول محمد صلاح العربى ان لديه عملا مطلوبا تنفيذه فى العمارة التى يقطنها إبراهيم محلب رئيس الوزراء، وانه يود أن يقابله ليعرفه على الصورة فى الداخل المدمرة تماما، والمختلفة عن الخارج. كما أن الموقف كما يقول عم صالح لا تتعدى زيارة لمهندسين والجدران تسقط وحدها. ويتحدث أهل المنطقة عن أن وزارة الثقافة كانت تنوى إقامة فندق فى هذا المكان، وإنه حتى هذه الفكرة غير محسوب نجاحها من فشلها. حبس الرحبة: وعند الخروج من الوكالة التى توجد أمامها مباشرة وكالة بازرعة التى جددها المجلس الأعلى للآثار وبدت فى صورة جيدة مختلفة، استقبلنى شارع حبس الرحبة ومنه إلى شارع بيت المال، ثم شارع أحمد باشا طاهر الذى يعدنا بالانتقال إلى دنيا أخرى حيث مسجد الإمام الحسين رضى الله عنه. فهنا على ناصية المسجد يشكو الناس من وجود صلبات حديدية عند السبيل المواجه للمسجد كما قال لى الحاج محمد على منذ خمس سنوات...فمن أين يبدأ المهندس إبراهيم محلب جولته بعد أيام حتى تستعيد الجمالية بريقها من جديد؟!