المدرسة بالصورة التقليدية المتعارف عليها كمؤسسة تعليمية أنشأها المجتمع لتقديم التعليم للتلاميذ من رياض الأطفال وحتى نهاية المرحلة الثانوية، تعتبر الآن مصدر شكوى فئات مختلفة من المصريين... فلا نسمع منهم إلا أن التعليم فاشل ،سيء ، رديء، متخلف ، يعتمد على الحفظ والتلقين، لا يؤهل لسوق العمل وكثير غيره من انطباعات سالبة واحكام مرسلة و مكررة. إن التعليم لا يقتصر دوره على إكساب المتعلم المهارات الأساسية للمواطن أو أنسنة الإنسان ولكنه يمكن أيضا من امتلاك مفاتيح القوة فى هذا الزمان ألا وهى المعرفة.ومنذ أن تحدث فرانسيس بيكون، أى منذ قرون أربعة مضت فى عصر التنوير، وذكر أن المعرفه قوة، وقوة المعرفة تأخذ أشكالا متطورة مع تغير الزمان والاستفادة من هذه المعرفة وتطبيقاتها فى جميع المجالات. وهنا تأتى الصعوبة فى الحديث عن المدرسة من حيث أنها أساسا نتاج عصر الصناعة، عصر قوة الآلة التى تدار بطاقة البخار فالكهرباء، وحين كان الإنتاج الوفير يصنع ليناسب الجميع. ومن ثم فرضت الصناعة متطلباتها على المدرسة من حيث تنوع المتعلمين والحاجة إلى متخصصين وفنيين وعمال مهرة وعمال نصف مهرة، وهكذا من مواصفات تعنى أن مراحل التعليم ونوعية المدرسة وما يقدم فيها يخدم المجتمع الصناعى بكل ما يطلبه من مستويات ومهارات للعمل. أما الآن، وفى القرن الحادى والعشرين، بل ومنذ سبعينيات القرن الماضى تقريبا، فالعالم يتغير بسرعة شديدة ومتزايدة، فتراكم المكتشفات العلمية الناجمة عن المعرفة المتزايدة وما أدت إليه والتغيرات التكنولوجية وتطبيقاتها فى مجال الاتصالات وغيرها لم تؤد إلى الاستغناء عن عضلات الإنسان كما فعلت الآله سابقا، بل عن الانسان نفسه فى الصناعة وغيرها ،فالإنسان الآلى ومتغيرات التكنولوجيا الرقمية السريعة المتراكمة جعلت الحاجة إلى عمال المعرفة تتزايد ،ويتراجع الطلب على من لا يمتلكون المهارات المطلوبة لهذا العصر الرقمي. وبديهى أنه مع هذه التغيرات فى المجتمع الانسانى كله، ومع تزايد قوة المعرفة تتزايد الحاجة إلى نوعية تعليم مختلفة تتلاءم مع ما طرأ على الواقع المعاش خارج المدرسة وما يدور داخلها والحالة هذه احتياجات المتعلم بمتطلباته الجديدة مما يفرض أن يطول التغيير أداء المعلم ومهاراته. ومع هذا يمكن القول بأنه مع تهاوى جدران المدرسة وزيادة المطالبة لها بأن تقدم لتلاميذها وللمجتمع ما يختلف عما تعودت أن تقدمه من حيث المحتوى التعليمى وطريقة تقديمه والتجهيزات الموجودة بها وإعادة النظر فى عملية التقويم والمنتج النهائى لها بالتالي. فالمدرسة والحالة هذه ما عادت قادرة على الاستمرار على ما هى عليه. ومن المتوقع من خلال المشاهدات الراهنه أن يتزايد تمرد التلاميذ عليها وعلى المعلم العامل بها حيث إن جمهور المدرسة له مطالب لا تلبيها هذه المؤسسة مما يدفع الى القول بأننا فى حاجة الى طرح السؤال هل المدرسة فى حاجة فقط إلى الإصلاح أم أنها فى حاجة الى أن يعاد اختراعها بالصيغة التى تتلاءم مع متغيرات عصر التكنولوجيا الرقمية المختلفة عن متطلبات عصر الصناعة وما فرضه على المدرسة من نظام يبدأ من الجرس الذى ينبه للوقت وغير هذا من قيم ما نزال نحاول التمسك بها من قيام وجلوس وطابور الصباح. وكل ما يميز المدرسة من ملامح النظام والتنظيم. هذا بالاضافة الى أن التمرد من التلاميذ على ما يدور فى المدرسة والتراجع فى درجة قبول المجتمع لما تقدمه لاختلافها فعلا عما هو مطلوب منها أن تقدمه ليتلاءم مع الزمان المتغير وما أخرجته الأبحاث الحديثة فى مجال المخ الانسانى عن طبيعة التعلم اوغيره مما أدى إلى أن تصبح المدرسه فى مصر بل والعالم فى موقف لا تحسد عليه. ويمكن الاشارة إلى أن ما نراه الآن من تزايد الاقبال على الدروس الخصوصية أو مراكز التعليم يعنى رغبة التلميذ فى الابتعاد عن قيود نظام المدرسة وأن يشعرب بتميزه عن غيره وبحريته فى التحصيل أو ربما يرغب فى أن يقدم له المدرس الدرس وحده أو مع عدد قليل ممن يختارهم هو من الزملاء ،وربما يمنحه الوجود فى المركز التعليمى الإحساس بحريته فى تحديد مواعيد الدراسة واختيار من يعلمه وبما يتيح له التشاركية مع كل من المعلم والزملاء دون قيود، كما هو الحال فى المدرسة وهو شعور يقترب من شعوره ورغبته بالاستمتاع بحريته فى الاتصال مع غيره عبر الشبكات الاجتماعية وانتقاء ما يريد أن يتعلمه ويعرفه بنفسه وأن يشترك ويشتبك فى علاقات مع أصدقاء لا يراهم من العالم كله ربما ويمنحه الإحساس بذاته وقدرته على التعامل مع الآخرين أينما كانوا. واذا كانت الحاجة هى أم الاختراع فما أحوجنا لأن نبحث بأنفسنا ولأنفسنا عن نموذج للمؤسسة التعليمية التى لا بديل عنها حتى الآن واحتفظت بها الحضارة الانسانية عبر القرون بنماذج مختلفه تعطى ما هو مطلوب منها طبقا لاحتياجات الانسان والمكان والزمان. لمزيد من مقالات د. نادية جمال الدين