انتهينا فى المقال السابق إلى رصد مجموعة التحولات التى جاءت مع مرحلة (مابعد الحداثة) ولم يكن النص بعيدا عن هذه التحولات ,التى لاحقت كثيرا من المقولات التى تنتمى له , والتى أخذت مكانة شبه مقدسة تبعا لبعدها الزمنى والإبداعى وفى مقدمتها مقولة (المعنى) , فلم يعد النص يتقبل شروطا ومواصفات (سابقة التجهيز), فالنص صاحب الحق الشرعى فى إنتاج مواصفاته , وتحديد شروطه , وتبعا لذلك أوغلت النصية فى الغموض, والتعامل مع غير المعقول, يستوى فى ذلك النص الشعرى والنثرى . ولم يكن السرد بعيدا عن كل هذه التحولات , فقد اغتالت (الحداثة وما بعد الحداثة) كثيرا من خواصه الفارقة, إذ غاب ( الخط الأفقى ) الذى يحكم مسيرة السرد الحكائية , وغاب الربط بين الوقائع والأحداث والشخوص منطقيا وسببيا , ولم تعد النتائج مرتبطة بمقدمات تحتمها , , وتبعا لذلك تعددت المسارات الأفقية والرأسية , وتعددت الحكايات فى النص الواحد وتداخل بعضها فى بعض , وهو ما ملأ النص بالفراغات الزمنية والمكانية والحدثية . والملاحظ أن مرحلة الحداثة حرصت على إحداث نوع من التوازن مع الواقع العام, وبخاصة فى زمن الانفلات الإنسانى خلال الحربين العالميتين, وهو انفلات سيطرت عليه غيبوبة العقل والمنطق, وشاعت فيه العدوانية, وكانت ملامح هذا التوازن فى استعادة الإبداع للانسجام الداخلى الذى يعمل على أن يستعيد الإنسان إنسانيته أولا, ومن ثم يستعيد العالم هذا الانسجام الإنسانى ثانيا. وعلى هذا التأسيس اتجه إبداع الحداثة إلى الإيغال فى الحقائق المعرفية, لتكون بديلا عن (العَرَض) الزائف الذى شوه الإنسان فى زمن الصراع التدميرى خلال الحربين العالميتين, وكان لكل فعل رد فعل , قد يكون إيجابيا , وقد يكون سلبيا, ويبدو أن السلبية فى هذا الاتجاه تمثلت فى تغلب الانشغال المعرفى على الذائقة الجمالية، أو لنقل إنها أزاحت النسق الجمالى إلى الهامش, ولعل هذا كان أحد دوافع إبداع ما بعد الحداثة إلى استعادة الجمالى وفق شروطه , لا وفق شروط سابقة , دون أن ينفى ذلك , الموقف المتحفظ للحداثة وما بعدها على (المعنى) على وجه العموم . ويمكن القول إن هذا التحفظ على المعنى , ربط إبداع الحداثة وما بعدها ( باللحظة الراهنة ), وتبع ذلك مقاربته ( للمحاكاة ) مرة أخرى , مع إشباعها بقدر وافر من السخرية , أى أنها أصبحت: (محاكاة ساخرة ), ومعها دخل الزمن سيولة غيبت ثلاثيته الخالدة : (الماضى الحاضر الآتى) , ثم تدخلت (التفكيكية) ساعية إلى طمس مجموع الثنائيات الوجودية مثل ثنائيات: (المحسوس والمعقول , و الحضور والغياب , , والأدب والنقد , والذكورة والأنوثة ) , وكان البديل الطارئ : ( اللعب الحر ) . معنى هذا أن الحداثة استهدفت استعادة النظام فى مواجهة النزعة التدميرية , ثم جاء ما بعد الحداثة محاولا تقويض هذا النظام , واستمر الجدل المعرفى والواقعى بين المرحلتين إلى بداية التسعينيات تقريبا , وكان هذا الجدل التبادلى ممهدا لمرحلة جديدة , هى مرحلة: (بعد ما بعد الحداثة ) , وكان ظهورها فى الوعى الإنسانى نوعا من مقاربة الحسم لإنهاء التذبذب الذى سيطر على ثلاثة أزمنة: (ما قبل الحداثة الحداثة ما بعد الحداثة ), وهو ما يمكن إيجازه فى عناصر محددة: (الحداثة) معها النظام والتجديد المنضبط, (ما بعد الحداثة) (المحاكاة الساخرة) ثم: (بعد ما بعد الحداثة), ومعها تعددت الإحالات والتداخلات النصية وارتباط المجاز بالحياتى ثم (الانعكاس) على معنى أن كل جديد هو انعكاس للقديم وإن غايره. إن الفواصل الزمنية التى ارتبط بها: (ما قبل الحداثة والحداثة وما بعد الحداثة وبعد ما بعد الحداثة) تكاد تكون فواصل تقديرية, لا تخضع للحسم الرقمى , وما جد فى (بعد ما بعد الحداثة) كان فى زمن التسعينيات من القرن الماضى, ويمكن القول إن (الزمن) فيها أصبح زمن السرعة التى تكاد لا تدرك , إذ أصبحت السرعة تفوق قدرة الإبداع والنقد على الملاحقة, (فالثانية) أصبحت الوحدة الزمنية التى يقاس بها الوجود, بل إن الزمن دخل فيما يسمى (الفيمتو ثانية), وهو ما أعجز الإنسان عن ملاحقة التحولات والمواقف والتقنيات والآلات, وكل ما استوعبه أصبح من ذاكرة الماضى, وأن عليه أن ينتظر ما تأتى به (الثانية) القادمة, فهو فى حالة انتظار وترقب لا تتوقف. لمزيد من مقالات د.محمد عبدالمطلب