دعيت الأسبوع الماضي لمؤتمر صحفى جرى فيه إطلاق أول دليل إرشادى للعاملين فى مجال العدالة الجنائية حول التعذيب. الدليل مهم جداً فى مرحلة تبدأ فيها مصر عصر جديد تسعي فيه إلى إصلاح مؤسساتها ودخول عصر جديد قوامه التقدم والديمقراطية وحقوق الإنسان. أعد الدليل المستشار هشام رءوف وهو بالأساس قاض، ورئيس محكمة الاستئناف بالقاهرة، ولأنه قاض مخضرم فهو يستطيع أن يقف تماما على احتياجات القضاء والعاملين فى مجال العدالة الجنائية لفهم تقنيات التعامل مع قضية التعذيب. و الدليل وافى فعلاً، إذ ينطلق المبحث التمهيدى للدليل لمناقشة الوضع التشريعى لجريمة التعذيب فى الدساتير المصرية المختلفة وكذلك رؤية القانون المصرى والشريعة الإسلامية لتلك الجريمة، ثم ينتقل بعد ذلك إلى مناقشة أركان جريمة التعذيب واستعمال القسوة والصفات اللازم توافرها فى المتهم ومتى تزول تلك الصفة والتعريفات المختلفة للمتهم بتلك الجريمة. يتطرق الدليل بعد ذلك إلى الأمر بالتعذيب والفرق بين "الأمر" و"الإذن" به، وصور التعذيب المختلفة، كما يعرض أيضاً إلى دور النيابة العامة والقضاء فى مناهضة التعذيب واختصاصات كلا منهما، وأيضاً طرق التبليغ المختلفة والإثبات الجنائي والقصور فيه، وكذلك دور الأطباء الشرعيين فى الكشف الطبي على الأشخاص المشتبه فى تعرضهم للتعذيب وإلى آخر المسائل التقنية المتعلقة بهذا الأمر من تشريعات وتنظيمات ونص الإتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب. وبدون الدخول فى التفاصيل القانونية والتقنيه، يبقى هناك عدد لا بأس به من الأسئلة الهامة وهى، ما الدافع أصلاً للتعذيب؟ ولماذا يتم الأمر والسماح به؟ وماذا يكون شعور القائم بالتعذيب والآمر به؟ وكيف يؤثر ذلك على حياته أصلا؟. تلك الأسئلة وأسئلة أخرى كثيرة تحتاج لمرجع آخر يدرس هذه الأسباب لنجد حلاً يساعدنا على وقف هذه الجرائم والعودة بالشخصية المصرية إلى ما اشتهرت به من طيبة ودعة وميل شديد للتسامح. روى لي الأستاذ حمدى الأسيوطى المحامى أثناء توقف المؤتمر قليلا حادثة شهيرة وردت ضمن ملاحق هذا الدليل، وهى قضية مأمور البدارى بأسيوط، حيث قام إثنان من أبناء مركز البدارى بقتل المأمور سنة 1932، وقتها حكمت محكمة جنايات أسيوط بإعدام واحد منهما وبالأشغال الشاقة المؤبدة على الثانى، وعند الطعن بالنقض فى الحكم اكتشفت محكمة النقض أن جريمة القتل كانت بسبب قيام المأمور بتعذيب المواطنين الذين يتم القبض عليهم جراء معارضتهم للاحتلال، وكان من بين من تعرضوا للتعذيب الرجلان اللذان قتلا المأمور، حيث قام بتعذيبهما وألبسهما ملابس النساء ثم قام بتعريتهما وهتك عرضهما أمام الأهالى ، فما كان منهما إلا أن تربصا به فقتلاه. وأدانت المحكمة برئاسة عبدالعزيز فهمى باشا فى حكم تاريخى 1932 فساد النظام وأفعال رجال البوليس التى وصفتها بأنها "إجرام فى إجرام"، وقالت المحكمة: "إن من وقائع هذه القضية ما هو جناية هتك عرض يعاقب عليها القانون بالأشغال الشاقة، وإنها من أشد المخازى إثارة للنفس واهتياجا لها ودفعا بها إلى الانتقام"، ورأت محكمة النقض آنذاك أن ما جعلته محكمة جنايات أسيوط موجبا لاستعمال الشدة كان يجب أن يكون من مقتضيات استعمال الرأفة. ويبقى سؤال آخر وهو كيف يمكن أن يتبادر إلى ذهن رجل القانون مثل هذه الأفعال المنافية جملة وتفصيلاً ليس فقط للقانون الوضعى ولكن أيضاً للقانون الإنساني. أعتقد أن صدور هذا الدليل سوف يحقق نقلة نوعية فى النظر لمسائل التعذيب وأعتقد أيضاً أننا فى حاجة لإعادة النظر لدى القائمين على القانون كافة في مسالة الفرق بين التعذيب والتهذيب، فلو افترضنا جدلاً حسن نية مرتكبى هذه الجريمة وأنهم إنما يفعلون ذلك رغبة منهم فى الحفاظ على الاستقرار والقضاء على الجريمة، فإننا حتى فى هذه الحالة نحتاج إلى التوقف كثيراً لدراسة هذا الأمر لأنه لا يمكن بأى حال من الأحوال الدفع بإمكانية خرق القانون لضمان سيادته ناهيك عن التجرد من الإنسانية لحمايتها... [email protected] لمزيد من مقالات أحمد محمود