لم تر مصر فى عصر ما قبل الثورة أياماً أسود من أيام حكم إسماعيل صدقى باشا، فكان يضرب بها المثل فى الظلم والتعسف والقهر والبلطجة، وبدأ صدقى باشا مصائبه بإلغاء دستور الأمة «دستور 1923» ووضع دستوراً آخر «تفصيل» للملك فؤاد، أعطاه كل الحقوق الممكنة، بعد أن سلبها من الأمة والبرلمان، وسمى «دستور 1930».. وقامت الاعتراضات والمظاهرات، وتآلف الوفد والدستوريون وقرروا مقاطعة الانتخابات وقرروا عمل جولة بالأقاليم، فقوبلوا بقوات من البوليس تضرب فى المتظاهرين بالرصاص، وحتى الزعماء لم يسلموا من الحبس فى محطات القطار ومن الضرب بالعصى.. وكان كلما اشتدت المعارضة والرفض والمظاهرات، زادت قوات البوليس وزادت الأوامر الصريحة لهم بالضرب فى المليان، وتساقط المئات فى جميع محافظات مصر، خاصة فى أيام الانتخابات التى قاطعتها الجماهير.. وعندما حاولت الصحافة الصمود عطلت الصحف بقرار من مجلس الوزراء، ثم وضع صدقى باشا قوانين عقوبات على جرائم النشر، وأظرفها المادة 151 من قانون العقوبات، وتصل فيها العقوبة إلى السجن خمس سنوات مع غرامة خمسمائة جنيه.. وكان مبلغاً مهولاً فى ذلك الوقت «عن التحريض على قلب نظام الحكم أو على كراهيته أو الازدراء به»، ورغم كل ذلك، فإنه وأثناء حكم صدقى استقال وزيران بسبب تجاوز من مأمور بوليس فى قضية شهيرة عرفت وقتها ب «قضية البدارى»، وكان مأمور مركز البدارى يشبه صدقى باشا كثيراً، وحدثت فى القرية جريمة قتل، اتهم فيها شابان ظلماً وأصرا على الإنكار.. فأخذ المأمور فى تعذيبهما والتنكيل بهما ولم يعترفا فقام بهتك عرضهما «بعصا» واستمرا فى الإنكار حتى هددهما بإحضار أميهما وزوجتيهما وأخواتهما ونزع ملابسهن أمام أهل البلدة.. وأرسل وأحضر النساء بالفعل وهنا أسرع الشابان واعترفا بالقتل.. وحكم عليهما بالإعدام والأشغال الشاقة وقبل التنفيذ ظهر القاتل الحقيقى وخرج الشابان بعد البراءة.. فقتلا المأمور واعترفا بالقتل وقالا فى المحكمة الأسباب، وقامت الصحافة بدورها وملأت أخبار القضية أنحاء مصر.. وحكم عليهما بالإعدام والأشغال الشاقة مرة أخرى، ورفع المحامون طعناً فى الحكم أمام محكمة النقض، وكان يترأسها عبدالعزيز فهمى باشا.. فقال رأيه فى أفعال المأمور بأنها إجرام فى إجرام، وأن جناية هتك العرض عقوبتها الأشغال الشاقة، وأنها من أشد المخازى إثارة للنفس ودفعاً للانتقام، ورأى أن ما جعلته محكمة الجنايات موجباً لاستعمال الشدة، كان يجب أن يكون من مقتضيات استعمال الرأفة.. ومع أن المحكمة رفضت الطعن لأنها لا تملك قانوناً لتخفيف العقوبة، فإنها أوكلت إلى أولى الأمر تدارك هذا الخطأ القضائى.. ورُفع الأمر لوزير العدل وكان على ماهر باشا، فخفف الحكم فعلاً إلى الأشغال الشاقة وخمسة عشر عاماً، ثم قدم استقالته ومعه عبدالفتاح باشا يحيى، وكان وزيراً للخارجية، وكادت الوزارة تسقط لولا مساندة الملك، وتأجل سقوطها عدة شهور فقط.. ومن يومها ذهب صدقى باشا إلى المكان الذى يستحقه فى التاريخ. حلوة قوى حواديت التاريخ.. وتوتة توتة.. خلصت الحدوتة.