تحول الوطن العربي إلي مسرح كبير يقدم عرضاً مسرحياً دامياً يموت فيه الممثلون والمشاهدون معاً ،حيث مهرجانات القتل والذبح فى الشوارع، وكرنفالات الفوضى والثرثرة السياسية التى لا تنتهي، حيث اعتاد الجمهور المدن كمصانع للأرامل والأيتام،وامتلأت صفحات الجرائد بالجثث وأطل علينا الجوعى والعراة والمشردون من شاشات التليفزيون كل صباح . تحولت هذه الخريطة إلي مسرح مفتوح في الهواء الطلق بعضه مكتوب وتم إعداده سلفاً وأغلبه مرتجل وليد اللحظة ويعتمد علي قدرات المؤدى. في الدراما التقليدية وخاصة في المسرح التجاري الذي يعتمد أسلوب الخروج عن النص في محاولة لإضحاك المشاهد وجذبه إلي صالة المسرح ،خروج عن النص يستعين بالإيحاءت الجنسية والمفارقات السياسية في المجتمع ،وبالأحداث اليومية الطازجة ويعيد تدويرها في سياق كوميدى لإستجداء الضحكات وبالتالي المحافظة علي رخاء شباك التذاكر ،ومنذ ما يقرب من أربع سنوات والخريطة العربية فضاء لأفعال يومية تجذب المشاهد بل جعلته «زبون» دائم لهذه الفرجة اليومية التى يستعين فيها المؤدى الذي خرج عن النص وأطاح بكل الأعراف والتقاليد المسرحية والإنسانية قديمها وحديثها ،لا يستعين فقط بالإيحات الجنسية أو الإشارات السياسية ،لا يستخدم الإكسسوار الأنيق أو الأزياء الجذابة تاريخية كانت أو عصرية ،ولا يجد عناء في بناء ديكور أو تصميم فضاء مسرحي جديد ،فالأرض كلها فضاء لهذه اللعبة الدموية وعناصر الطبيعة هي الديكور،ولا أهمية للملابس ،فالملابس العسكرية بشتى أنوعها من محاربي كفار قريش وحتى الملابس المستعارة من الجيش الأمريكى أزياء مناسبة لهذه اللعبة الدموية ،أما الإكسسوار فتقريباً موحد مجموعة من الأسلحة النارية بشتى أنواعها بالإضافة إلي الصواريخ والقنابل اليدوية والحديثة ، وبعض الأقنعة السوداء التى تُخفي ملامح الوجه ، وهوية المؤدى ،والنص المكتوب عمل جماعى فيما يشبه ورشة الكتابة بلغة المسرحيين ،ورشة يشارك فيه الجميع ، البعض بأروحهم ، أو ممتلكاتهم وأطفالهم وأوطانهم إذا لزم الأمر،مشاركة حقيقية ،والناتج مبهر ومدهش ومؤلم دون شك وتأثيره يفوق التطهر الأرسطى لا يجعل المتفرجين يشعرون بالتطهر والراحة بعد مشاهدة هذه الشرور علي خشبة المسرح ، بل يتألمون لأن هذه الشرور أصابتهم وذويهم ،هذه الشرور تنمو وتتضخم ولاتنتهي بمجرد إسدال الستار . فإذا تأملنا المشهد بعد ما يقرب من أربع سنوات على ما أُطلق عليه إعلامياً الربيع العربى، سنكون على يقين أن ثمة مخرجا مسرحيا ومعه عشرات المساعدين يقود هذه العملية المسرحية التى أنتجت عدداً كبيراً من العروض الحية، التى يتم بثها على الهواء مباشرة نقلاً حياً من الشوارع والميادين والحدائق وحتى أسطح العمارات - وهنا لا أتناول الأحداث سياسياً بقدر ما هو تأمل للصورة التى يبثها الإعلام . أشعر بأن ثمة منصات مسرحية يتم إعدادها فى عدة دول، ليست منصات مسرحية متجاورة فى دائرة كما كانوا يفعلون فى مسرح العصور الوسطى، حيث يتم وضع جميع المناظر التى يتضمنها العرض فى هذه المنصات، إذ لم تكن تقنية تغيير الديكور والمناظر متاحة، وكان الممثلون ينتقلون من منصة إلى أخرى، من منظر إلى آخر وخلفهم يلهث الجمهور لمتابعة الأحداث، حيث كانت الأحداث تتوزع على المنصات، والجمهور والممثلون هم من يتحركون، وهذه المنصات عادت ولكن بأحداث واقعية وأيضاً تنقلها وسائل الإعلام ويشاهدها الجمهور، ليست تمثيلاً وأداء وإن كانت لا تخلو من ذلك، ولكن من خلال قتلى وجرحى ومجازر، مسرح عنيف يموت فيه الممثلون والجمهور! وظنى أنه نوع جديد من المسرح القاتل الذى يضحى بالممثلين والجمهور لصالح المخرج وفريق العمل، والمنصات كما ذكرت ليست فى دائرة محدودة بل فى دائرة بحجم العالم العربى، وهذه المنصات لا تعمل فى وقت واحد تقريباً بل يتم تسليط الضوء، على واحدة أو اثنتين، وإذا أُسدل الستار مؤقتاً فى هذه المنصة وأطُفئت الأنوار، تُضاء المنصة الأخرى، فحين تُطفأ الأنوار فى ليبيا تضاء المنصة فى اليمن، وحين تخفت أضواء منصة اليمن، تضاء فى سوريا، وحين يأخذ المسرح السورى استراحة بين الفصول، تضاء فى القاهرة أو تونس وبيروت ، وفجأة يتم التركيز على منصة / فضاء مسرحي يجعل الجميع ينسي الفضاءات الأخرى كما يحدث الآن في العراق من خلال « داعش « وهكذا .. وأنا أتابع الفضائيات على مدى السنوات الماضية، ينتابنى هذا الشعور بقوة، فكل فترة يتم التركيز على منصة / دولة والأحداث الجارية فيها، وتتراجع المنصات الأخرى، ربما إعلامياً فقط، وعلى أرض الواقع المنصات تعمل وتضاء أنوارها كل يوم، ولكن تراجعها كصورة فى الميديا بأمر مخرج ما، ثمة مناظر مسرحية يومية، مناظر حية يعيش معها المشاهد، حيث تصلك عزيزى المشاهد، كل أنواع المذابح، ومئات القتلى والجرحى والمدن التى فقدت سكانها حتى مقعدك فى البيت ! فبعد قرون طويلة عادت المنصات المسرحية مع بعض الاختلاف التقني الذي أحدثته التكنولجيا في عصر الصورة إذ أصبح المشاهد يتنقل من خلال « الريبوت « بين المحطات الفضائية لا ليشاهد مشاهد مسرحية تاريخية أو رومانسية بل ليشاهد جثث وأشلاء وخرائب في أماكن متفرقة من العالم ، مسرح أكثر إثارة تفوق على التراجيديات اليونانية الراسخة في وجدان المسرحيين، إذ أصبحت المنصات التي يتجول بينها المشاهد من خلال جهاز التحكم الصغير تعرض له أحدث مشاهد القتل والمذابح ويمكنه أيضاً أن يشاهد طعام اللاجئين البائس وحتى ملابسهم الداخلية ودموعهم التي تنهمر على الهواء مباشرة وأحياناً موتهم أيضاً على الهواء ،وله أن ينتقل إلي منصة أخري ليشاهد تفجيراً يقتل ويصيب العشرات ،وهو مشهد اعتاده المشاهد منذ سنوات، وهناك منصات تختفي ويحل محلها منصات أخري ، حتى يستطيع المخرج إعداد المشاهد والحركة والإكسسوار وبناء الديكور في فضاء أخر فالمنصات تعمل طوال الوقت وهناك مخرج كبير وبالطبع معه العشرات من المساعدين يسهرون حتى تستمر هذه المناظر المسرحية أستطيع أن أشاهد المخرج،لا أتبين ملامحه ولكنه دون شك بلا قلب . .......................... خلق المسرح القاتل الذى أنتجه الربيع العربى، طرائق وأساليب جديدة فى فن التمثيل، وهو أمر جاء بالصدفة، فلم يقصد المخرج ومساعدوه هذه النتيجة، ولكن تم استغلالها.. فلأول مرة يشاهد الجمهور العربى والعالم كله الأداء الحركى والتعبير الجسدى لحضارات مختلفة من خلال التظاهرت من خلال الاحتجاج أو البكاء على القتلى، أو الحزن المفرط على خرائب المدن، ثمة أداء حركى جديد، ثمة تعبير جسدى مختلف، فالتعبير عن الموت فى سوريا، يختلف عنه فى تونس،والذين يتم اقتيادهم للذبح في العراق بواسطة داعش يذهبون إلي الموت برد فعل ربما يختلف عن أقرانهم في سوريا على يد نفس الجماعة! صراخ النسوة فى اليمن دون شك يختلف عن صراخهن فى مصر، ردود الفعل التى تنقلها الفضائيات تؤسس لطرائق جديدة فى أساليب التمثيل.. ناهيك عن الأغانى الشعبية والموسيقى التى يقاوم بها المتظاهرون الاستبداد، بالإضافة إلى أساليب القمع التى يراها المشاهد وتختلف من بلد إلى آخر أو تختلف بين منصة مسرحية وأخرى.. لقد فتحت السنوات الماضية خزانة هذه الشعوب ونفضت الغبار عن عاداتها وتقاليدها ومنذ أحداث ثورة الخامس والعشرين من يناير وحتى الآن ومروراً بكل الأحداث التى أشاهدها فى القاهرة وأشارك فيها بنفسى وجسدى وعقلى، والأحداث البعيدة جغرافياً والتى تنقلها الفضائيات، أتساءل كيف يكون لدينا فى الدول العربية هذا الأداء الحركى والتعبير الجسدى الثرى والمتنوع والذى يجسد ويعبر بقوة عن حضارة هذه الشعوب باختلاف مشاربها من فرعونية وآشورية، وفينيقية وأمازيغية، ثم نستورد مسرحاً غربياً وتعبيراً حركياً مستعملاً من قبل فى بلاد أخرى. وكيف لا تصعد هذه التفاصيل إلى خشبة المسرح، وكانت الصدمة حين رتق المسرحيون فى مصر الثوب الجديد برقعة قديمة، وغضوا البصر عن كل ما أنتجته هذه الثورات ونقل الأحداث بنفس الأساليب البالية! ولم يلتفت هؤلا إلى ما حدث، المنصات التى كانت فى الميادين والتى كانت تقدم ما يمكن أن ينتمى إلى مسرح الشارع، بل كان البشر يمسرحون أنفسهم، فغالباً ما تجد شخصاً حمل بعض الإكسسوارات، عبارة عن لافتة وملابس تبدو مسرحية وكتب مطالبه ورؤيته للأحداث مع بعض الهتافات والأغانى،كانت الميادين فى الواقع مسرحاً كبيراً فى الواقع وعلى شاشات التليفزيون ورغم عنف ما حدث ورغم الثراء الدرامى وتعدد مفردات الصورة، لم يلتفت أحد أو قل، لم يفهم أحد !