ثمة تمييز ضرورى بين مستويين للديمقراطية: أولهما ظاهرى/ إجرائى، كونه عملية تنظم عمل المؤسسات وتضبط التوازن بين السلطات، وتشرف على آليات انتقالها عبر صناديق الإقتراع على أساس صوت لكل مواطن. وثانيهما جوهرى/ باطنى، كونها حالة عقلية ونفسية تستلهم مفاهيم فلسفية كالعلمانية، وقيم وجودية كالحرية، تستقر عليها الإرادة الإنسانية. فى التصور الإجرائى للديمقراطية يمكن للإرادة الحرة أن تغيب تحت عوامل شديدة التباين كالفقر والجهل من ناحية أو هيمنة الأعراف والتقاليد من ناحية أخرى، أوسطوة الكاريزما وقسوة الإيديولوجيا من ناحية ثالثة. أما فى التصور الجوهرى لها فلا يمكن لهذه الإرادة أن تغيب، لأنها الهدف الأساسى والمغزى الحقيقى لكل ممارسة إجرائية. فى التصور الأول تحضر الديمقراطية من دون قاعدتها وهى (النزعة الفردية)، فلا الشخصية الإنسانية واعية بذاتها، ولا هى مدركة لعالمها. أما فى التصور الثانى فتحضر النزعة الفردية، حضورا فعالا ومبدعا، لا يمكن معه تزييف الوعى أو طمس الإرادة. يكره المستبدون الحرية كراهية عميقة، فإذا ما اضطروا إلى التعامل مع نظام ديمقراطى دفعوا به إلى السياق الإجرائى/ الظاهرى، تجنبا لحضور نقيضه الليبرالى، الحاضن للشخصية الإنسانية بكل مقوماتها المتفردة، التى تستعصى على التحكم والسيطرة، والتى تتبدى لهم نزعات عبثية، حاملة لبذور تفسخ اجتماعى، أو فوضى سياسية، يتوجب تنظيمها ليبقى المجتمع متماسكا غير منقسم بين فرقاء متصارعين، والوطن أمنا غير مخترق من قبل أجانب متآمرين، فكل معارض خائن بالضرورة، وهنا تولد روح جمعية، تؤدى إلى الاستبداد بكل أشكاله، العادلة حينا، والظالمة أحايين. لقد حاول المستبدون دوما، سواء بقوة السلاح أو سحر الإيديولوجيا، التحكم فى الطبيعة الإنسانية تقليصا لعوامل تفردها، وتنميطا للكتلة البشرية التى يحكمونها، كى يتمكنوا من بناء التنظيمات الجامعة التى يريدون، والهياكل الواسعة التى يحبون، والتى تتأسس جميعها على وعى بالتجانس لا يأبه بالإختلاف، ينكره أو يرفضه، تحقيقا لأهداف كبرى للجماعة الإنسانية برمتها، أهداف من ذلك النوع الكلى الذى يتصوره الحاكم المستبد ضرورة لشعبه، من غير أن يستفتى فيها هذا الشعب، بذريعة أنها أهداف عليا، تحكمها اعتبارات السيادة، فلا يفترض أن يعارضها أحد، وإلا فهو شخص شاذ، غريب الطور، مواطن غير صالح، فاقد للشعور الوطنى، يجب اجتثاثه أو قهره كى يختفى من الصورة، فلا يعدى الآخرين. أما الخبر العظيم الذى يزفه إلينا التاريخ، فهو أن كل المستبدين الذين توهموا قدرتهم على التحكم بالطبيعة الإنسانية، أو على إعادة صياغتها كلية، قد فشلوا جميعا فى إنجاز مهمتهم النهائية، حتى لو تحققت لهم بعض النجاحات فى لحظة البدايات. حدث ذلك للشيوعية السوفيتية التى اعتقدت فى قدرتها على كبح الروح الفردية للإنسان، وتحويله إلى ترس يعمل بانتظام فى آلة جماعية، عضو يتحرك فى سياق كتلة لا ملامح لها. هكذا تم دمج أفراد الشعب الروسى ضمن الشعوب السوفيتية، عبر التهجير القسري، وصبها فى كتل تعمل بانتظام وظيفى رهيب يبدأ فى المزارع الجماعية والمصانع الكبيرة، وإلا فهى المنافى والسجون السيبيرية، مرورا بما يشبه الورش الأدبية التى تدافع عن الواقعية الإشتراكية، وفرق البالية ومعاهد الفنون أو حتى الألعاب الرياضية، التى خضعت جميعها لقوة ضبط ونظام عمل صارم رتيب، تحقيقا لرفعة الدولة ومجد الأمة، وليس بوازع من رغبات البشر، ولا تحقيقا لذواتهم واستثمارا لنبوغهم، غير أن ذلك لم يدم طويلا، فلا الناس كانوا سعداء حقا، ولا الأمة السوفيتية موحدة فعلا، ولا الدولة استمرت فى تحقيق النجاحات الأولى، حيث أرهق البشر فى النهاية، وخفتت دوافعهم، وهرم الحزب الذى أشرف على تنظيمهم، وإن ظل واقفا مستندا إلى منسأته. وحدث مثل ذلك للنازية، التى سارت على الطريق نفسه فى إهدار قيمة الفرد، ولو عبر طريق آخر يختلف عما سارت فيه الشيوعية، وهو تضخيم هذه القيمة بالنفخ فى ذات الفرد حتى ينفجر من داخله، وذلك بالنفخ فى الأمة الألمانية ذاتها. فكما أن تلك الأمة عظيمة منذ البداية، خلقت لرسالة كبيرة تعتلى بها قمة الأعراق، وتسعى من خلالها إلى ريادة الحضارات، فإن الفرد الألمانى هو أعظم الذوات الإنسانية بشرط وحيد هو أن يكون لبنة أولى طيعة فى عظمة الوطن الآرى، ومن ثم يتوجب عليه التضحية باستقراره وأمانه وهناء عيشه، ليحارب الأمم الأخرى خارج هذا الوطن، تلك التى تنفى عظمته، وليضطهد الأعراق الأخرى داخله، تلك التى لا تحمل دماءه الصافية وعرقه النقى، حتى كان ما كان من شوفينية واستبداد ومعارك دامية لأسباب واهية، أتت على تلك المدنية الكبرى، التى أنتجت سلفا بعضا من أعمق الأفكار التنويرية، واحتضنت يوما التيار النقدى أحد أبرز التيارات الفلسفية منذ أسس له العظيم كانط، والذى قتل ورثته الفرانكفورتيين أو سجنوا أو هاجروا إلى الولاياتالمتحدة، هروبا من الجنون النازى الذى دمر كل شيء، قبل أن يدمر ما بقى من عقولهم. لم يكن النازى متفردا فى التاريخ الإنسانى، كما لم يكن ستالين، وإن جسدا معا، من طرق متغايرة، ذروة الإستبدادى العلمانى، ففى موازاتهما كانت فاشية الدوتشى قائمة فى إيطاليا، وفاشية فرانكو متصاعدة فى إسبانيا، وقبلهما كان التاريخ قد احتشد بأساتذة كثر يصعب إحصاؤهم، فيما التلامذة من بعدهم غير قليل، وإن ظل النازى مثالا (حديثا)، ملهما للقصور فى فهم الديمقراطية، وعلامة بارزة على التعسف فى توظيف الصناديق الصماء بغرض التحكم فى أرواح الأحياء، وطمس وعى العقلاء، وأمزجة الأحرار، إنه المستشار الذى لم يستشر أحدا، فداهمته حكمة التاريخ التى لا تتستر على الحقيقة، ولا تستثنى أحدا. لمزيد من مقالات صلاح سالم