نجح «الإخوان المسلمون»، كما هو متوقع، في فرض دستور أقلوي لم يتم التوافق حوله، على جموع المصريين، الذين صوتت غالبيتهم الفقيرة عليه من دون أن تعلم أن هذا الدستور ينال من مكتسباتهم، أقله مجانية التعليم، ومن نمط حياتهم المديني المعتاد. إذ تسمح بعض مواده (التي تتحدث عن رعاية الدولة والمجتمع الأخلاقَ وقيمَ الأسرة المصرية الأصيلة) بإنشاء هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيما السعي، قبل إقرار الدستور، لم يتوقف عن محاولة فرض الوصاية على القضاء، والرغبة تبدو جلية، في نصوصه الانتقالية، في الانتقام من رموزه وإهدار استقلاله، هو الذي كان آخر حصونهم الحصينة، وأقوى أعمدة الدولة المصرية الحديثة، والسؤال: كيف وافق المصريون على هذا الدستور، على رغم كل مثالبه والملابسات المحيطة به، وهل يعكس التصويت ب (نعم) موقفاً حراً أو سلوكاً ديموقراطياً؟ تفترض الحرية السياسية تحرراً وجودياً، عقلياً ونفسياً وروحياً من كل قيد عدا الواجب والقانون، فإذا ما أرادت جماعة إنسانية بلوغها، كان عليها أن تخلص لوحيها، وأن تتعلم كيف تكون، أن تتمثل صورتها الذهنية المتجددة عن الإنسان والمجتمع، وأن تتربى على فلسفتها، وعقيدتها، لأن تلك التربية تشكل وحدها الضمان الأساسي الذي يمكن الحرية من الدفاع عن نفسها ضد أولئك الذين ربما استخدموا أدواتها الإجرائية «العملية» للانقلاب ضدها، وتحطيم الحقوق «الجوهرية» التي تترتب عليها. ولعل هذا هو جوهر المأزق الذي تعيشه اليوم الجماعة الوطنية في مصر، المنقسمة على نفسها، والموزعة بين ميادينها، مذ أصدر الرئيس محمد مرسي قراراته المسماة «إعلاناً دستورياً»، ولم تكن في الحقيقة سوى انقلاب دستوري على الشرعية التي يفترض أنه يستند إليها، وعلى مؤسسات الدولة الذي أتت به، وعلى اليمين الدستورية التي حلف بها أمام المحكمة الدستورية التي أخذ يناصبها العداء. وصولاً إلى الاستفتاء على الدستور، الذي يبدو أن إقراره سيكون بداية أزمة كبرى بدلاً من كونه حلاً للأزمة القائمة كما يتصور التيار الذي وقف وراءه بشدة، وحاول فرضه على المعارضين. الملاحظة الواضحة التي نود التوقف عندها هي أن أحداً من المنتمين إلى جماعة «الإخوان المسلمين» لم يعارض الرئيس، أو يبدي تحفظاً عن قراراته، أو حتى عن تعجله في الدعوة إلى الاستفتاء على الدستور، أللهم سوى الصحافي المعروف محمد عبدالقدوس، مقرر لجنة الحريات، وعضو مجلس إدارة نقابة الصحافيين، وهو استثناء يؤكد القاعدة، ويثير علامات استفهام كثيرة وتساؤلات مربكة: كيف تتفق جماعة كبيرة حاكمة على قرارات إشكالية من حجم القرارات التي فجرت الأوضاع وأثارت الانقسام في الشارع المصري ونوعها؟ كيف لا يتحفظ فريق ويدخل في نقاش مع فريق آخر ليقنع أي منهما الآخر، أو ليتوصل كلاهما إلى حلول وسطى يقدمونها للآخرين من شركاء الوطن؟ تثير تلك التساؤلات ضرورة التمييز بين الديموقراطية كعملية إجرائية تنظم عمل المؤسسات وتضبط التوازن بين السلطات وآليات انتقالها عبر صناديق الاقتراع، وبين الديموقراطية كمرجعية فلسفية، وجوهر باطن، تستقر عليه الإرادة الإنسانية. في التصور الإجرائي للديموقراطية يمكن الإرادة الحرة الواعية أن تغيب تحت عوامل شديدة التباين من الفقر إلى الجهل إلى التعصب. أما في التصور المرجعي لها فلا يمكن هذه الإرادة أن تغيب، لأنها هي نفسها الهدف والمغزى الباطن والغاية النهائية لكل ممارسة إجرائية ظاهرة. في التصور الأول تحضر الديموقراطية من دون قاعدتها المؤسسة (النزعة الفردية). وفي التصور الثاني تحضر الديموقراطية مع قاعدتها، حضوراً فعالاً ومبدعاً، لا يمكن معه تزييف الوعي أو طمس الإرادة. وأغلب الظن أن المشروع السياسي «الإخواني» لمصر، يصعد إلى السلطة على سلم الديموقراطية قبل أن يركله فلا يصعد عليه سواه. لقد تبدى ذلك في الانتخابات الرئاسية المصرية منذ البداية، فالمرشح الاحتياط لجماعة «الإخوان» وحزبها يفتقد كلياً الكاريزما، ويفتقر عموماً إلى القبول، لم يظهر كثيراً ولم يتحدث إلا نادراً، ولم يتبين له أحد خطاباً واضحاً إلا في حديثه عن النهضة في أحد البرامج التلفزيونية وهو الحديث الذي ورثه عن المرشح الأصلي خيرت الشاطر، وحديثه التقليدي أمام طلاب جامعة القاهرة عن الموت في سبيل الله باعتباره أسمى الأماني، ولا أدري لماذا لا يكون العيش الحر المتمدن هو أسمى الأماني، أليس هذا العيش الكريم والبحث الدؤوب عن الترقي هو سر رسالة الاستخلاف الإلهي للإنسان على الأرض وأصلها؟ المهم أن الرجل الذي كان قابعاً في مؤخر كل استطلاعات الرأي اندفع فجأة إلى مقدم السباق الرئاسي لا لسبب إلا بتصويت تلقائي - آلي من القواعد التنظيمية لجماعته، على قاعدة الأمر والطاعة، فهو تصويت للجماعة التي يرأسها المرشد وليس المرشح الذي سيرأس مصر، وهنا يبقى التصويت ديموقراطياً إذ احترم الإجراءات، ولكنه لا يبقى حراً إذ لم يعكس تلك العلاقة الحميمة والمباشرة بين المرشح الذي يتكلم عن نفسه، والناخب الذي يتجه إلى شخص أو برنامج مرشحه، والذي يعكس في النهاية رغبات الناخب وميوله وأحكامه، أي شخصيته المتفردة. والمشكلة هنا لا تنصرف إلى الماضي وحده بل إلى الحاضر والمستقبل، فقبل أن يعلن الرئيس مرسي قرارته، التي منح بها نفسَه السلطات الثلاث تقريباً، وفي سياق إصراره على الاستفتاء الدستوري، أخذت قاعدة السمع والطاعة في ممارسة عملها، إذ احتشدت الجماعة ومنتسبوها للتأييد بتلقائية منقطعة النظير، قطعاً للطريق على أي نقاش حولها أو ممانعة لها، حجراً على آراء المخالفين لرئيسهم، المنتمي إلى جماعتهم انتماءً عقدياً لا سياسياً، لذا أخذت تمارس معه لعبة الولاء الديني لا التأييد السياسي، تدافع عنه باستمرار، وعلى نحو مسبق كأحد أبنائها، الذي يعد شرفه من شرفها، وحياته من حياتها، لتثبت للمصريين أن الرئيس وراءه (رجالة) تدافع عن شرفه (الإخواني) الذي تعتقد أنه يتلوث بالنقد السياسي. إنه بالضبط منطق القبيلة وإن تدثرت بغطاء سياسي (الحرية والعدالة)، أو عملت ضمن إطار حداثي (النظام السياسي المصري). كان النظام القديم، على علاته السياسية وفساده الاقتصادي، ابناً خالصاً للدولة المصرية، لا يستطيع العمل إلا من خلالها على منوال أسلافه المنتمين لموروث تموز (يوليو) الجمهوري ولو الاستبدادي، ولا يستطيع مواجهة الناس إلا بأدواتها سواء نجح في استخدامها أم فشل في ذلك، ومن ثم ظل التعامل معه ثم الخروج عليه ضمن صيغة الخروج الدولتية المعروفة والمضمنة في ثنائية سلطة - مجتمع، والتي ضمنت بقاء الصراع سياسياً منظماً، وسلمياً لا دموياً، وأبقى الثورة المصرية بيضاء حتى الآن. أما الرئيس مرسي فليس إلا ابناً لجماعة ذات توجه سياسي محافظ، وتوجه ثقافي رجعي، لم يعد ثمة أوهام في كل ما يثار حول هيمنتها على قراراته، وهو ما يمثل الوجه الآخر لدفاعها المستميت عنه دفاعاً عضوياً كدفاع قبيلة عن شيخها، وإن احتل الدين هنا مكان العرق، والبيعة «الإخوانية» محل الدم. وبدلاً من الفتنة الطائفية الذائعة الصيت، نجد أنفسنا هذه المرة أمام فتنة سياسية بين «الإخوان» ومعارضيهم. وبدلاً من كون الصراع سياسياً يدور بين أفكار وأحزاب، حول الصندوق الزجاجي، نجده ينتقل إلى الشارع من جديد، ليدور بين أجساد بشرية مندفعة مع الرئيس أو ضده، محكومة بولاءات مذهبية ورؤى دينية أكثر منها برامج سياسية أو تصورات أيديولوجية، وتلك انتكاسة سياسية كبرى ذات دلالة هائلة وهي أن جماعة «الإخوان» التي اعتبرت نفسها شريكة في الثورة على نظام سياسي بائد، لا تنتمي فقط إلى هذا النظام المستبد سياسياً، بل وإلى ما قبل هذا النظام الجمهوري - الحداثي، ثقافياً. نقلا عن صحيفة الحياة