الحرية بالمعني الوجودي هي نشاط الروح الإرادي الذي يمدنا بالقدرة علي أن نقول ما نعتقده, وأن نفعل ما نقوله.. والذي يضمن لنا أن نتمتع بثمار فعلنا وأن نتحمل كلفة أخطائنا, إنها إرادة الاختيار والمسئولية في يد واحدة وتوازن كامل.. يبلغ الإنسان هذا المستوي من الحرية, السابق علي شتي أشكالها السياسية والاقتصادية, عندما يتجاوز كونه مجرد (فرد) يعكس نوعه البشري, إلي كونه( شخصا) يجسد ذاتا واعية وحضورا انسانيا متفردا, وهو انتقال ليس بسيطا بل مركبا إلي حد التعقيد, ممتدا بطول التاريخ, يمر بعمليات متتالية من التعليم والتثقيف.. فإذا ما أردنا أن نخلص لوحي الحرية كان علينا أن نتربي علي فلسفتها, وعقيدتها, لأن هذا التعلم وتلك التربية يشكلان الضمان الأساسي الذي يمكنها من الدفاع عن نفسها ضد أولئك الذين قد يستخدمون أدواتها للانقلاب عليها. يمكننا التمييز هنا بين الديمقراطية كعملية إجرائية تنظم عمل المؤسسات وتضبط التوازن بين السلطات وآليات انتقالها عبر صناديق الاقتراع, وبين الديمقراطية كمرجعية فلسفية, وجوهر باطن, تستقر عليه الإرادة الإنسانية. في التصور الإجرائي للديمقراطية يمكن للإرادة الحرة الواعية أن تغيب تحت عوامل شديدة التباين من الفقر إلي الجهل إلي التعصب. أما في التصور المرجعي لها فلا يمكن لهذه الإرادة أن تغيب, لأنها الهدف والمغزي الباطن لكل ممارسة إجرائية ظاهرة. في التصور الأول تحضر الديمقراطية من دون قاعدتها وهي (النزعة الفردية), التي تكاد تمثل منها ما يمثله الدسم في اللبن, والذي بدونه يغيب السمن ويتحول اللبن إلي ما يسميه الفلاحون (الشرش). وفي التصور الثاني تحضر الديمقراطية مع قاعدتها, حضورا دسما, فعالا ومبدعا, لا يمكن معه تزييف الوعي أو طمس الإرادة, فسمن الإرادة قابع في لبن الإجراءات. وأغلب الظن أن المشروع السياسي الذي يحمله التيار الإسلامي لمصر, وحسبما يتبدي في خطاب تياراته جميعا, لا يعدو أن يكون صياغة ديمقراطية إجرائية, بينما يرفض الحرية كإطار مرجعي, ويهدر النزعة الفردية كأداة لتحرير وازدهار الشخصية الإنسانية, علي النحو الذي تبدي في الانتخابات الرئاسية المصرية كأوضح ما يكون, فالمرشح (الاحتياطي) لجماعة الإخوان وحزبها يفتقد كليا للكاريزما, ويفتقر عموما للقبول, لم يظهر كثيرا ولم يتحدث إلا نادرا, ولم يتبين له أحد خطابا واضحا إلا حديثه عن النهضة وهو الحديث الذي ورثه عن المرشح الأصلي خيرت الشاطر, وكذلك حديثة التقليدي عن الموت في سبيل الله باعتباره أسمي الأماني, ولا أدري لماذا لا يكون العيش الحر المتمدين هو أسمي الأماني, أليس هذا العيش الكريم والبحث الدائب عن الترقي هو سر وأصل رسالة الاستخلاف الإلهي للإنسان علي الأرض؟. المهم أن الرجل الذي كان قابعا في مؤخرة كل استطلاعات الرأي اندفع فجأة إلي مقدمة السباق الرئاسي لا لسبب إلا بتصويت تلقائي/ آلي من القواعد التنظيمية لجماعته, علي قاعدة الأمر والطاعة, فهو تصويت للجماعة التي يرأسها المرشد وليس المرشح الذي سيرأس مصر, وهنا يبقي التصويت ديمقراطيا إذ احترم الإجراءات, ولكنه ليس حرا حقا إذ لم يعكس تلك العلاقة الحميمة والمباشرة بين المرشح الذي يتكلم عن نفسه, والناخب الذي يتجه إلي شخص أو برنامج مرشحه, والذي يعكس في النهاية رغبات الناخب وميوله وأحكامه, أي شخصيته المتفردة. والمشكلة هنا لا تنصرف إلي الماضي وحده بل إلي المستقبل فإذا ما تمكن الإخوان من الفوز بالمقعد الرئاسي, بجانب الغالبية البرلمانية, يصير مؤكدا تشكيلها للحكومة أيا كانت طبيعة نظام الحكم الذي يصوغه الدستور, مما يعني أنها سوف تنفرد بصوغ مقادير مصر. وهنا يمكن تصور طبيعة الصفقة التي يمكن للجماعة أن تقدمها للمصريين, والتي تقوم علي المقايضة بين طرفين: أولهما قيادة فعالة للاقتصاد الوطني, وإدارة رشيدة لمرافق الدولة تحل الكثير من مشكلات المواطنين اليومية, حيث يتوفر للجماعة رءوس أموال كثيرة, ونخبة مميزة من رجال الأعمال, الذين لم تتلوث أيديهم بفساد النظام السابق, والذين يكادون يشكلون نحو 50% من الطبقة العليا لنخبة رجال الأعمال المصريين حاليا. ونتصور هنا أنها سوف تنشط في محاربة الفقر, وتحقق نجاحات كبري علي هذا الصعيد, وسوف تحسن إدارة مرافق الدولة فيما يتعلق بالخدمات العامة كالمواصلات, والنظافة, وغيرها. وثانيهما ديمقراطية إجرائية تمارس في العموم والظاهر, ولكن مع تقييد لهامش الحرية الثقافية الذي اعتاده المصريون. وبالطبع سوف تتفاوت درجة التقييد بالموقع الذي سوف تختاره جماعة الإخوان وحزبها, فإذا ما اختارت موقع الشريك الوطني مع القوي الليبرالية أو بعضها, في ائتلاف حاكم, فسوف يكون هامش التقييد محدودا, وعبر مسار تدريجي, ومساومات صعبة مع أجنحة هذا التيار الليبرالي خشية تفكيك الائتلاف. أما إذا احتلت موقع القطب المهيمن في ائتلاف إسلامي مع التيار السلفي, فالمؤكد أن حركة التقييد سوف تكون أسرع, وأن حدتها ستكون أعمق, لأن هذا التيار سوف يحتل سريعا موقع الصقور في الحركة نحو اليمين, بينما تتحول الجماعة وحزبها إلي حمائم, وهنا قد يطال التقييد نمط حياة المصريين المعتاد, فالمتصور أن تفرض رقابة علي السينما وأن تنمو سينما الحجاب علي حساب السينما التقليدية, وأن تكون هناك مراجعة أكبر للكتب الصادرة في مصر, وقيود علي الكتب المستوردة من الخارج, كما يبدو مؤكدا فرض قيود علي حركة السياحة, إما علي لباس السياح, أو علي تداول الخمور, أو لحم الخنزير, أو علي السلوكيات الشخصية علي الشواطيء, لتكون أكثر اتفاقا مع ما يتصور أنه التقاليد الإسلامية, ناهيك عن القضية الأكثر إشكالية وجذرية وهي تطبيق أحكام الشريعة وليس فقط مبادئها, وما يقتضيه ذلك من لي عنق نمط الحياة المصري المتفتح والوسطي الذي ساد القرن العشرين علي الأقل, بل رافق ميلاد الدولة المدنية الحديثة قبل القرنين, تلك الدولة التي لا يمكن اعتبارها كشفا جديدا كما يدعي أنصار التيار الديني مصورين هذه الدولة باعتبارها هجوما خطيرا (علمانيا) علي المجتمع والثقافة المصرية المستقرة, رغم أن التيار المدني المصري لا يطالب بجديد قط سوي الخلاص من الاستبداد الذي رافق تطور هذه الدولة, وأفسدها وليس تغيير الطابع العام أو الجوهري لها. وهنا أتصور أن تعيش مصر بمدي دورة انتخابية كاملة, علي إيقاع تلك الصفقة, فإما أن يقبل بها المواطنون, فيتكرر نجاح الإخوان ويعاد انتخابهم بنسبة أكبر وهو ما لا نتوقعه استنادا إلي ما نظنه تجذر الحداثة المصرية علي نحو يفوق تصور المتدينين أنفسهم, والذين قد تستفزهم محاولة التحكم بنمط سلوكهم. وإما أن يرفضوها, وعندها يصبح الإخوان أمام اختيار صعب: فإما الانصياع لديمقراطية كاملة تتأسس علي النزعة الفردية, وتقوم علي تكامل الحريات السياسية والثقافية والاجتماعية, وهو ما يفتح طريقا لتلاقي الإسلام مع العصر, وإما المعاكسة والوقوف أمام التيار العام, فتضيع علي الجماعة, وعلي المرجعية الإسلامية فرصة ربما لا يجود الزمان بها, في وقت قريب. المزيد من مقالات صلاح سالم