لمحاولة توضيح تراجعه، سجال بين رئيس النواب وعدنان فنجري بسبب "الإجراءات الجنائية"    قبل اجتماع المركزي، تعرف على أسعار الفضة في مصر    21 من أصل 44.. أسطول الصمود العالمي ينشر أسماء سفنه المستهدفة من إسرائيل    نونو مينديز يضم لامين يامال لقائمة ضحاياه برفقة محمد صلاح    إصابة 7 أشخاص بينهم طفل في تصادم تروسيكلين ببني سويف    الأوبرا تمد فترة التسجيل في مسابقات مهرجان الموسيقى العربية ال33 حتى 6 أكتوبر    الصحة: 8708 متبرعين يدعمون مرضى أورام الدم في حملة "تبرعك حياة"    لأول مرة.. الرقابة المالية تصدر ضوابط إنشاء المنصات الرقمية للاستثمار في وثائق صناديق الملكية الخاصة    تعرف علي موعد إضافة المواليد علي بطاقة التموين في المنيا    الإصلاح والنهضة: انتخابات النواب أكثر شراسة ونسعى لزيادة المشاركة إلى 90%    إعلام فلسطيني: غارات إسرائيلية مكثفة على مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة    غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء فى قطاع إلى 66.225 شهيدا منذ بدء العدوان    الكرملين: الاتصالات بين الإدارتين الروسية والأمريكية تتم عبر "قنوات عمل"    مخاوف أمريكية من استغلال ترامب "الغلق" فى خفض القوى العاملة الفيدرالية    بكالوريوس وماجستير ودكتوراه، درجات علمية جديدة بكلية التكنولوجيا الحيوية بمدينة السادات    ديكيداها الصومالي يرحب بمواجهة الزمالك في ذهاب دور ال32 بالكونفدرالية في القاهرة    البلدوزر بخير.. أرقام عمرو زكى بعد شائعة تدهور حالته الصحية    المجلس القومي للمرأة يستكمل حملته الإعلامية "صوتك أمانة"    إخلاء سبيل سيدتين بالشرقية في واقعة تهديد بأعمال دجل    النائب ياسر الهضيبي يتقدم باستقالته من مجلس الشيوخ    نجل غادة عادل يكشف كواليس علاقة والدته بوالده    وزير الخارجية يتوجه إلى باريس لدعم حملة ترشح خالد العنانى فى اليونيسكو    مواقيت الصلاة اليوم الخميس 2أكتوبر 2025.. موعد أذان العصر وجميع الفروض    وزير الإسكان يتابع موقف تنفيذ وحدات "ديارنا" بمدينة أكتوبر الجديدة    طرق الوقاية من فيروس HFMD    «أطفال بنها» تنجح في استخراج مسمار دباسة اخترق جدار بطن طفل    قطر تستنكر فشل مجلس الأمن فى اعتماد قرار بشأن المعاناة الإنسانية فى غزة    14 مخالفة مرورية لا يجوز التصالح فيها.. عقوبات رادعة لحماية الأرواح وضبط الشارع المصري    شيخ الأزهر يستقبل «محاربة السرطان والإعاقة» الطالبة آية مهني الأولى على الإعدادية مكفوفين بسوهاج ويكرمها    بقيمة 500 مليار دولار.. ثروة إيلون ماسك تضاعفت مرتين ونصف خلال خمس سنوات    النقل: خط "الرورو" له دور بارز فى تصدير الحاصلات الزراعية لإيطاليا وأوروبا والعكس    السيولة المحلية بالقطاع المصرفي ترتفع إلى 13.4 تريليون جنيه بنهاية أغسطس    «غرقان في أحلامه» احذر هذه الصفات قبل الزواج من برج الحوت    بتكريم رواد الفن.. مهرجان القاهرة للعرائس يفتتح دورته الجديدة (صور)    بين شوارع المدن المغربية وهاشتاجات التواصل.. جيل زد يرفع صوته: الصحة والتعليم قبل المونديال    برناردو سيلفا: من المحبط أن نخرج من ملعب موناكو بنقطة واحدة فقط    المصري يختتم استعداداته لمواجهة البنك الأهلي والكوكي يقود من المدرجات    وست هام يثير جدلا عنصريا بعد تغريدة عن سانتو!    لهجومه على مصر بمجلس الأمن، خبير مياه يلقن وزير خارجية إثيوبيا درسًا قاسيًا ويكشف كذبه    الكشف على 103 حالة من كبار السن وصرف العلاج بالمجان ضمن مبادرة "لمسة وفاء"    ياسين منصور وعبدالحفيظ ونجل العامري وجوه جديدة.. الخطيب يكشف عن قائمته في انتخابات الأهلي    " تعليم الإسكندرية" تحقق فى مشاجرة بين أولياء أمور بمدرسة شوكت للغات    جاء من الهند إلى المدينة.. معلومات لا تعرفها عن شيخ القراء بالمسجد النبوى    تفاصيل انطلاق الدورة ال7 من معرض "تراثنا" بمشاركة أكثر من 1000 عارض    تموين القليوبية يضبط 10 أطنان سكر ومواد غذائية غير مطابقة ويحرر 12 محضرًا مخالفات    حمادة عبد البارى يعود لمنصب رئاسة الجهاز الإدارى لفريق يد الزمالك    استقالة 14 عضوا من مجلس الشيوخ لعزمهم الترشح في البرلمان    رئيس الوزراء: الصحة والتعليم و"حياة كريمة" فى صدارة أولويات عمل الحكومة    من هم شباب حركة جيل زد 212 المغربية.. وما الذي يميزهم؟    تحذيرات مهمة من هيئة الدواء: 10 أدوية ومستلزمات مغشوشة (تعرف عليها)    وزير الخارجية يلتقي وزير الخارجية والتعاون الدولي السوداني    هل الممارسة الممنوعة شرعا مع الزوجة تبطل عقد الزواج.. دار الإفتاء تجيب    انهيار سلم منزل وإصابة سيدتين فى أخميم سوهاج    «المستشفيات التعليمية» توقع بروتوكول تعاون مع جامعة المنصورة الجديدة لتدريب طلاب الطب    «الداخلية»: القبض على مدرس بتهمة التعدي بالضرب على أحد الطلبة خلال العام الماضي    دعاء صلاة الفجر ركن روحي هام في حياة المسلم    حماية العقل بين التكريم الإلهي والتقوى الحقيقية    «التضامن الاجتماعي» بالوادي الجديد: توزيع مستلزمات مدرسية على طلاب قرى الأربعين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. فؤاد ذكريا.. خاض معاركه السياسية والفلسفية بأدوات شكلية تقليدية فجاء موقفه السياسي تعبيرا عن رؤيته الفلسفية
نشر في القاهرة يوم 23 - 03 - 2010

الكتابة عن شخص بقيمة الدكتور فؤاد زكريا الذي وافته المنية مؤخرا لاتناسبها الكلمات الترحمية أو المجاملات اللفظية لأننا كما تعلمنا من الرجل ان الاحتفاء الحقيقي بالراحلين من ذوي الإضافات الفكرية والسياسية لا تكون بالمفردات البليغة بل بالقراءة النقدية العميقة والجادة.
ولعل ما قاله د.زكريا في كتابة "كم عمر الغضب" يكون خير ما نواسي به تلاميذ ومحبي الرجل ممن ستصدمهم نتائج هذه الدراسة حيث يقول "الكلام عن الأحياء والأموات والتفرقة بينهم في النقد أمر لا معني له في ظل وعي سياسي سليم ومبدأ (اذكروا محاسن موتاكم)ينطبق علي الأقارب أو الجيران أو الشركاء ولكنه خارج مجال الكتابة التاريخية والسياسية ولو صح هذا المبدأ في تلك الميادين الأخيرة لما استطعنا كتابة التاريخ".
لقد عرف عن د.زكريا موقفه الناقد للتيارات الدينية والإسلامية بسبب جمودها وانغلاقها وسلفيتها وسقوطها في سلطة الماضي دون ان تستطيع ان تبصر خارجه او سواه فحاولت ان تجر حاضرها الي ماضيها لكن.
علي الرغم من ذلك فقد سقط زكريانفسه في مثل الفخ -الجمود والانغلاق- بل والمنطق الشكلي الذي تستخدمه هذه التيارات سواءا في معاركه السياسية او الفكرية وهو ما سيتضح من خلال الأمثلة التي سنذكرها في متن هذه السطور.
نقاط جوهرية
ان المتتبع لكتابات ومؤلفات فؤاد زكريا يجد انها ترتكز علي عدة نقاط جوهرية تعد بمثابة الأدوات والمنطلقات التي يدير بها معاركه السياسية والفلسفية هي:
اولا:إيمان الرجل بالعقلانية والحداثة الغربيتين دونما مراعاة للخصوصية التاريخية والاجتماعية والمعرفية والواقعية للمجتمعات العربية والإسلامية فكل المفاهيم التي أنتجتها الحداثة الغربية كانت برأي الرجل صالحة لكل زمان ومكان مع تأكيده الدائم انه لا يوجد شيء صالح لكل زمان ومكان لكن هذا ما تمخضت عنه كتاباته ولعل ما ذكره الدكتور احمد عبد الحليم عطية في كتاب "جدل الأنا والآخر في فكر حسن حنفي " نقلا عن المستشرق الألماني الكسندر فلورس في دراسته " فؤاد زكريا وجدلياته للظاهرة الإسلامية المعاصرة"حيث يري فلورس ان"فؤاد زكريا يعد من أصحاب الدعوة للعقلانية والحداثة في العالم العربي دونما تحفظ علي غربية الأفكار العقلانية التي تغلغلت في مصر والوطن العربي عن طريق الهيمنة والغزو الفكري " ويضيف " هدفه من ذلك تثبيت الفكر العقلاني الحديث في الحياة الثقافية العربية".
وهذه نقطة مفصلية تراها في كل كتابات زكريا فمثلا الحكم علي التجربة الناصرية بكل أبعادها من خلال منظور ديمقراطي وفقط دون مراعاة للواقع الاجتماعي والثقافي والحضاري والتاريخي لدولة كمصر مثل هذا الامر يعد غير منطقي وغير عقلاني اللهم من منظور اوروبي ديمقراطي ليبرالي كذلك موقف زكريا الشهير من دخول مصر في حرب اليمين وتشبيه ذلك بالغزو الفرنسي لمصر حيث انه احتلال لكنه أضاف بعدا تحديثيا مثل هذا الأمر يدل سقوط الرجل في فخ المركزية الأوروبية وانه لا يري خارج هذه المركزية أي أفق تجديدي.
ثانيا: امرذو صلة بالنقطة السابقة- وهو تمركز الرجل داخل المفاهيم والقوالب الفلسفية الكلاسيكية كهيجل وكانت وديكارت وفلاسفة عصر التنوير ممن اطلقوا مقولات وافكار كلية تمت مراجعتها ورفضها في فترات تالية وعلي الرغم من معايشة زكريا لمثل هذه المراجعات الا انه لم يستطع تقبلها وتمثلها وظل وفيا لمفاهيم عصر التنوير وأحلامه الوردية التي أصبحت من مخلفات التاريخ ونفايات الإنسانية بل قام زكريا بقراءة ومحاكمة هذه المفاهيم الجديدة بتلك الأدوات القديمة ولعل ذلك يتضح في موقفه من البنيوية.
ثالثا: اعتمد زكريا إيمانا منه بقيم ومفاهيم الحداثة السياسية والفلسفية علي منطق شكلي إجرائي في مواجهة خصومه ومن ثم قاده ذلك الي نتائج بالغة الغرابة والدهشة وبعيدة عن الحقيقة مثل قوله ان الاستقبال الحافل لنيكسون في مصر يدل علي عدم إيمان المصريين بالمنجزات والمفاهيم الاشتراكية التي أنجزتها ثورة يوليو بل انه رأي كل ما أنجزته ثورة يوليو لم يكن اشتراكية بل إقطاعية في ثوب جديد وكانت الحجج التي يسوقها دائما تراكيب ومقدمات-للدقة مغالطات- شكلية.
رابعا: كان زكريا حريصا دائما علي إدانة المختلفين معه واتهامهم بعدم الموضوعية او الاستفادة ممن يدافعون عنه وغيرها من الأساليب التي تعكس ضمنيا ادعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة لكنها هنا الحقيقة العلمانية المطلقة.
خامسا: تنطوي كتابات زكريا علي إدانة وتقليل من الذات فهزيمة يونيه كانت بسبب غياب الديمقراطية وفقط لا بسبب عدوان غاشم يريد ان يقضي علي تجربة ناهضة كذلك العرب والمسلمون دائما مخطئون تجاه الغرب فهم إرهابيون وكل محاولة لرد ذلك لعدم العدالة الغربية تجاه العالم الإسلامي يراها زكريا إدانة للذات.
هذه باختصار ابرز أدوات فؤاد زكريا في معاركه وكتاباته وسنتعرض فيما يلي لأبرز هذه المواجهات خصوصا مع التيارين القومي والإسلامي المستنير مثل حسن حنفي وعبد الرحمن بدوي.
المعارك السياسية
موقف الدكتور فؤاد زكريا من التجربة الناصرية مسألة مشهورة ومعروفة فالرجل يري ان ما حدث عام 1952 لم يكن ثورة ولم تكن هناك اشتراكية ولا ديمقراطية وليست الناصرية سوي فاشية أهدرت حرمات الإنسان المصري وروحه بل أضافت حركة الضباط الأحرار برأيه-طبقة مستغلة جديدة وبعد ان كانت نصف في المائة في الماضي أصبحت خمسة في المائة كذلك رأي ان هزيمة يونيه لم تكن الا بسبب غياب الديمقراطية ولو كانت هناك مشاركة شعبية لما حدث ما حدث، وكان طبيعيا ان تثير هذه الاراء حفيظة الناصريين فدارت بينه وبينهم معارك.
هيكل وزكريا
واحدة من اهم المعارك التي شهدتها مصر والعالم العربي في أواخر سبعينات القرن الماضي وأول الثمانينات كانت بين الدكتور فؤاد زكريا و الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل وذلك من خلال صحيفة الوطن الكويتية بعد ان نشر هيكل كتابه خريف الغضب علي حلقات وقام زكريا بالرد من خلال نفس الصحيفة علي مقالات هيكل وجمعها بعد ذلك في كتاب بعنوان "كم عمر الغضب" طبعا الكتاب إضافة إلي رده علي هيكل كان يحمل إدانة للتجربة الناصرية.
ما يعنينا هنا ليست موقف زكريا تجاه ثورة يوليو او هيكل بل نركز بالأساس علي الأسانيد والحجج المنطقية والعقلية التي استخدمها دكتور فؤاد زكريا في رده علي كتاب هيكل .
لقد قرأت كتاب "كم عمر الغضب" أكثر من مرة وفي مناسبات متعددة ووجدت الحجج والبراهين التي قام عليها الكتاب حجج شكلية وتسطيحية باستثناء فكرة واحدة كان محقا فيها وهي اذا كان السادات لم يكن جديرا ومستحقا لمنصب الرئاسة وانه قد قامر بمستقبل مصر والعالم العربي فإن الخطأ في ذلك يعود الي عبد الناصر الذي اختار السادات نائبا وأي محاولة لإعفاء عبد الناصر من ذلك كما فعل هيكل فإنها مخطئة سوي ذلك لا تجد في هذا الكتاب فكرة قائمة علي منطق قوي وحجة مقنعة الا اختلاق اوهام ومعارك في الفراغ.
خذ مثلا إصرار المؤلف طوال فصول الكتاب علي انه لا فرق بين فترة عبد الناصر وفترة السادات لانه لا توجد ديمقراطية والمتحكم فيها شخص هو رئيس الجمهورية فقط.
طبعا لم يقل احد ولن يقل احد بمثل هذا الرأي سواء كان معارضا للسادات او معارضا لعبد الناصر او معارضا للاثنين معا ففارق لا يحتاج الي دليل بين الفترتين اما ان نبني حكما كهذا علي اساس مشابهة سطحية امر لا يقره عقل ولا منطق والا فلا فرق اذن بين الفراعنة والمماليك والحكم الاسلامي وحكم اسرة محمد علي واغلب تاريخ مصر لان المتحكم فيه دائما كان شخص الحاكم
المثال الأبرز علي سيادة المنطق الشكلي في هذا الكتاب هو الفصل الثالث الذي يحمل عنوان "لعبة الأحياء والأموات" وفيه استعرض حجج وآراء المعارضين لنقد هيكل للسادات بعد رحيله لان مثل هذا العمل -نقد الأموات- برأيهم غير أخلاقي لكن زكريا اتفق مع هيكل في رده بان هيبة الموت وقدسيته لا يعنيان تبرئة الحكام وإبعادهم عن النقد فليس معقولا ان يأتي كل حاكم ويفعل ما يشاء ولا نحاسبه في حياته او بعد مماته.
لكن سرعان ما يرد زكريا علي هيكل مذكرا إياه بأنه استخدم حجج خصومه منكرا علي توفيق الحكيم هجومه علي عبد الناصر بل ووصف هيكل ما قاله الحكيم بأنه عربدة للفئران في غياب القطط وبناء علي ذلك يري زكريا انه لا فرق بين منطق هيكل ومنطق خصومه.
والحقيقة -كما قلت من البداية- الدكتور فؤاد زكريا قدم نموذجا سيئا لاستخدام الفلسفة بهذا المنطق الشكلي البحت ففارق وبون شاسع بين موقف الحكيم من عبد الناصر وموقف هيكل من السادات فالأخير كان موقفه النقدي استمراراً لموقف اتخذه من السادات أثناء حياته أما الحكيم فلم يكن له موقف معارض لعبد الناصر طوال حياته بل كان ابرز ابواق التجربة الناصرية فتري بأي منطق يمكن وضع هيكل والحكيم في سلة واحدة؟.
لكن يبدو ان دفاع زكريا عن موقف توفيق الحكيم ومحاولة جعله مساويا لموقف هيكل علي الرغم من تباين الموقفين هو دفاع ضمني من زكريا عن موقفه تجاه التجربة الناصرية.
فزكريا بعد ان كان يمتدح التجربة في حياة صاحبها انقلب عليها بعد وفاة ناصر والا فبماذا نفسر ما قاله الرجل عام 1970 كما نقل عنه الراحل الكبير محمد عودة - عن الثورة حيث يقول زكريا "قبل عام 1952 م كان التفكير في العدالة الاجتماعية يتخفي ويتسرب تحت الأرض وكانت الاشتراكية معني محرما تعاقب عليه قوانين الدولة الرسمية وكانت الملكية الخاصة سواء منها الزراعية والصناعية حقا مقدسا لا يمس مهما بلغ مقدار استغلالها أو وقوفها في وجه النمو المنطلق للمجتمع . وكانت أبواب البلاد مفتوحة علي مصراعيها أمام الاستثمارات الأجنبية دون ان يتساءل احد عن مدي التعارض بين هذه الاستثمارات وبين رغبتنا في تنمية اقتصادنا علي نحو مستقل أما اليوم فان الاشتراكية والعدالة الاجتماعية هي السياسة الرسمية للدولة والاقتصاد الوطني يعرف كيف يميز بين المساعدة الآتية من الأصدقاء وبين الاستغلال الذي يعوق نموه . والملكية الخاصة قد تكشفت وظيفتها الاجتماعية ولم تعد تحاط بهالة القداسة التي كانت تمنع المجتمع حتي تقليم أظافرها".
ويمضي زكريا في مدح التجربة الناصرية " علي الرغم من الانحرافات الفكرية فان هناك حقيقة واحدة وهي ان الجميع ينادون بالشعارات الاشتراكية وهذا يعد في ذاته تقدما هائلا . لان هذا الإجماع يعكس تعلقا شديدا وشاملا من الشعب بالمعاني التي تعبر عنها هذه الشعارات بحيث يكون التراجع عنها في المستقبل ضربا من المستحيلات" هذا ما كان يقوله زكريا عن التجربة الناصرية لكنه عندما حل عصر جديد يناقض سابقه فكأنما عاد اليه وعيه مثل توفيق الحكيم فرأي في التجربة ضياع للانسان المصري وتوسيع لقاعدة الاقطاع لذلك كان طبيعيا ان يدافع عن موقف الحكيم لانه صورة من موقفه.
النكسة
في يونيه عام 1986م كتب الدكتور فؤاد زكريا مقالا في مجلة الهلال بمناسبة ذكري نكسة 67 والمقال جاء استمراراً لنفس الفكرة التي نقد علي أساسها التجربة الناصرية وهي غياب الديمقراطية لذلك رأي أن الحكم الفردي الشمولي هو المسئول الأول والأخير عن هذه الهزيمة وان المشاركة الشعبية لو كانت موجودة كانت ستمنع هذه الكارثة رأي كذلك أن الآراء التي تري سبب هذه الهزيمة هو المؤامرة الخارجية آراء غير موضوعية بل موقفها هذا هو تبرير لعهد كانت تستفيد منه لا بناء علي رؤية صحيحة وواقعية ودلل علي ذلك بتجربتين لدولتين أخرتين كانتا لهما موقفاً معادياً لأمريكا والامبريالية الغربية واستطاعتا بفضل المشاركة الجماهيرية ان تنتصر وهما فيتنام ونيكارجوا.
المفكر والاقتصادي المصري الشهير الدكتور جلال أمين كان هو من تصدي لهذا المنطق مبينا تهافته وعدم منطقيته فتساءل أمين اذا كان صحيحا ان الهزيمة كانت بسبب عدم المشاركة الشعبية ف"ما رأي د. فؤاد زكريا مثلا في انتصار الاتحاد السوفيتي علي ألمانيا بقيادة ستالين في ظل نظام من اقسي النظم بوليسية وديكتاتورية؟وما راية في انتصار ألمانيا بنازيتها علي فرنسا بديمقراطيتها والتي كانت هزيمتها تضاهي في حجمها وسرعتها الهزيمة المصرية في عام 67مع ان الهجوم هنا كان اقل مباغتة من هجوم إسرائيل علي مصر؟ بل ما راي د.زكريا في انتصار الجيش المصري في 73؟ هل يستطيع حقا ان يري في هذا الانتصار نتيجة لتغيراسلوب الحكم في مصر نحو مزيد من المشاركة الشعبية والتقليل من الحكم الفردي؟ أم أن الأمر يجب ان يفسر تفسيرات اخري؟" بهذا المنطق العقلي البحت رد جلال امين علي فؤاد زكريا وان كان الرجل لم ينف عن التجربة الناصرية أخطاءها لكنه رفض هذه الرؤية الشكلية التي تجعل الديمقراطية هي الفيصل في تفسير الهزيمة بل صدق امين حينما قال في نهاية رده ان شغف فؤاد زكريا أعماه عن حب الحقيقة فقاده الي منطق اخلاقي لا تاريخي بحت.
علي ان هذه المسالة - ديموقراطية الحكم- خصوصا في البلدان الشرقية تحتاج الي وقفة -برأي- فجعل المحك الأساسي للحكم علي تجاربنا السياسية والتاريخية بناء علي الديمقراطية فقط امراً غير منطقي وغير عقلاني طبعا هذا لا يعني عدم اهمية المشاركة الشعبية لكن السياق التاريخي والحضاري للبلدان العربية والشرقية عموما كانت فيه الديمقراطية أمراً نادر الحدوث ومع ذلك لم يمنع هذا من تحقيق انجازات وقيام حضارات وإلا اذا ربطنا التقدم والحضارة بالديمقراطية فستكون الفترة الفرعونية لا تمثل حضارة بل سيكون اليونان هم أصحاب الحضارة فقط لأنهم عرفوا الديمقراطية ولم يعرفها الفراعنة وهو امر غير صحيح أيضا فتجربة محمد علي التي كانت محل ثناء الدكتور فؤاد في كل كتاباته هل كانت ديمقراطية؟ كلا.
ما ذكرناه سابقا يعبر عن مواقف ومعارك زكريا السياسية لكن هل يا تري يختلف موقفه السياسي عن موقفه الاكاديمي الفلسفي؟.
الحقيقة لا فالموقف السياسي هو تعبير عن الرؤية الفلسفية للرجل فنفس الروح الكلاسيكية الساكنة التي لا تري الامورفي أبعادها المختلفة كانت حاضرة في كتاباته الفلسفية.
وإذا أردنا أن نذكر أمثلة علي ذلك فأول ما نشير إليه هي مجلة "الفكر المعاصر " التي اشرف عليها زكريا وتولي امرها فكان رئيسا للتحرير واستمر إصدارها حتي منتصف السبعينات فماذا كان حال هذه المجلة من الناحية الأكاديمية والفلسفية.
يقول المفكر المغربي الشهير سالم يفوت في كتابه "المناحي الجديدة للفكر المعاصر " الصادر عن دار الطليعة ص 32 " التوجه الاشتراكي الذي أعطته الدولة القومية لنفسها كرس مناخا معينا -في المجلة- انعكس علي البحث الفلسفي للفكر الاشتراكي حيث بدا الاهتمام اكثربالاصول الفلسفية للفكر الاشتراكي ممثلة في الماركسية وهذا ما يفسر لنا الاهتمام الذي حظيت به قضايا مثل "ماركس وهيجل" و"الاغتراب" و"الاستلاب" و"الممارسة" و"الماركسية والوجود" وغيرها من الموضوعات التي تندرج في نفس السياق" ويوضح يفوت ان روح الوثوقية التي نشرتها المجلة من خلال الموضوعات التي نشرتها يعكس جمود وتقليدية في القائمين عليها -أي زكريا- وبعدهم من الجدالات الجادة التي كانت تشهدها الأوساط الفلسفية الغربية في ذلك الوقت.
لم يكن هذا الأمر قاصرا علي مجلة الفكر المعاصر بل امتد الي كتابات زكريا المتأخرة التي واكبت وشهدت رؤي وتيارات فلسفية مختلفة بل وجديدة كل الجدة عن الفلسفة التقليدية لكن ظل زكريا وفيا للدرس الفلسفي التقليدي بل وحاكم هذه التصورات الجديدة بأدوات قديمة وبالية وبعبارة يفوت في نفس الكتاب المشار اليه سابقا "بعض مفكرينا المشهود لهم بالباع الطويل في الفلسفة ظلوا في مواجهتهم للنصوص الفلسفية الجديدة التي اكتشفوها فيما بعد رغم انهم عاصروا مخاضها متمسكين بمواقفهم التقليدية من التاريخ والممارسة والايديولوجيا والنزعة الإنسانية ... حتي انهم في تناولهم بالدرس الجذور الفلسفية للبنائية او في قراءتهم لفكر نتشه لم يحيدوا قيد انملة عن تلك المواقف" ويضيف في الهامش موضحا" نلمح هنا الي مؤلفي الدكتور فؤاد زكريا".
وحتي يكون الكلام محددا سنلخص في ايجاز موقفه -أي زكريا- من البنيوية ومن نتشه حتي يتضح الامر للقارئ.
للدكتور فؤاد زكريا مؤلف عن نتشه فماذا قال فيه؟ لقد حاكم المؤلف نتشه بمفاهيم حداثية اولية واخذ عليه انه يسير في اتجاه اللامعقول وانه يعبر عن النزعة الفردية وانه علي الرغم من رفضه لأصحاب الرؤي التجريدية يغرق في التجريد ويرفض زكريا اعتبار نتشه صاحب مذهب فلسفي .
هذا باختصار ما قاله عن نتشه فما الخطأ في ذلك؟
الخطأ أن نتشه ممثل لتيار ما بعد الحداثة الذي يرفض الرؤي الكلية والشمولية للحداثة مثل العقلانية والمعقول ومن ثم فان نتشه هو تجسيد لفكر ناقض ومناقض للأرضية التي يقف عليها الدكتور فؤاد زكريا وهو الامر الذي لم يدركه الرجل حتي وفاته بسبب إيمانه المتجذر بفكرة الحداثة والعقلانية.
عدم تواصل
المثال الابرز علي عدم تواصل زكريا مع الفكر المعاصر هو تعامله مع البنيوية فالرجل في كتابه افاق الفلسفة الصادر عام 1988م خصص فصلا كاملا تقترب عدد صفحاته من المائة لمناقشة البنيوية بعنوان "الجذور الفلسفية للبنائية" حاول خلالها تتبع نشأة البنيوية من المذاهب الفلسفية السابقة مثل الجشطلت والنزعة التجريبية والنزعة المثالية وغيرها وهذه التجربة محكوم عليها بالفشل ابتدءا وانتهاءا لان البنيوية جاءت انقلابا علي الفكر الفلسفي الكلاسيكي بمذاهبه المختلفة من مثالية الي تجريبية او غيرها فالفكر وفق الأفق التي تتحرك فيه البنيوية وما بعدها اتجاه يبحث في الجزئيات لا الكليات، اتجاه يتعامل مع الانسان والفكر كمفعول به لنسق شامل فليست الواقعية او المثالية هنا لها أي دلالة فاللغة مثلا عند البعض هي التي تخلق الانسان وتتحكم في تكوينه وتفكيره والبعض يري الأسطورة وغير ذلك لذا فلا مجال هنا للبحث بأدوات تقليدية عن رؤي تجاوزت هذه الأدوات.
نقرا مثلا في هذا البحث اعتراض زكريا علي مقولة التوسيرو ان القوانين الموضوعية للاقتصاد توجد مستقلة عن وعي الانسان بها بل تتحكم في هذا الوعي لذلك اعلن التوسير موت الانسان يعقب زكريا علي ذلك بقوله " عندما يصل الامر بهذا التفسير الي رفع شعار موت الانسان فان المرء لا يملك الا ان يعد هذا تطرفا غير مشروع " ويعلل ذلك بقوله " عملية الانتاج نفسها عملية انسانية بل هي التي تميز الانسان عن سائر الحيوانات التي لا تنتج شيئا لكي تعيش " ويضيف" خطورة هذا التفسير تكمن في انه يصور الامر كما لو كانت في المجتمع قوي تعمل بذاتها وبصورة تلقائية لها قوانينها الخاصة علي نحو مستقل عن الانسان الذي في نهاية الامر صانعها وسبب وجودها" هكذا قال فؤاد زكريا والحقيقة ان ما يستبعده زكريا- أي وجود قوانين خاصة ومستقلة عن الانسان- هو جوهر البنيوية التي تري وجود انساق كليه خارج الانسان بل وتصنع هذه الانساق الانسان قد يكون النسق اللغة او ادوات الانتاج او الاسطورة او غير ذلك لكن يبدو ان وفاء الرجل لعصر التنوير جعله لا يستطيع ان يواكب مستجدات الفكر.
يبقي اخيرا ان نشير ان موقفنا النقدي من كتابات ومواقف الرجل يحتم علينا ان نشيد بصفتين أخلاقيتين تميز بهما عن كثيرين غيره هما وفاؤه لمن يؤمن به حتي اخر حياته، النقطة الاخري هي بعده عن الشللية في الاوساط الثقافية فلم يكن الرجل محسوبا علي أحد أو لأحد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.