يسود الآن حديث لا ينقطع عن تنمية تغني الناس من مشروع قناة السويس إلي تطوير الساحل الشمالي إلي تعديل خريطة المحافظات، وهناك رهان علي أن المواطن في غضون عام أو عامين سوف يشعر بأن مستواه المعيشي تحسن، ونوعية الحياة أصبحت أفضل بالنسبة له. ويراود الناس أمل في مستقبل أكثر رخاء، وهم يرون كثافة الجهود الحكومية، وتلاشي بعض مظاهر العشوائية والفوضي في المجتمع. الإشكالية الحقيقية أن الحكومة تفعل دون مشاركة المواطن. بالطبع إن لم تبذل الحكومة الجهود الكثيفة في تنمية المجتمع لن يفعل غيرها، لا القطاع الخاص مهتم، ولا الجمعيات الأهلية تستطيع. لكن هناك فارق بين أن تفعل الحكومة للمواطن، وبين أن تفعل الحكومة مع المواطن. أحد الدروس المستفادة من مشروعات التنمية الكبري هو ضرورة حضور المواطن إلي جوار -وليس خلف-الحكومة. وفي رأيي أن ما يريد الرئيس عبد الفتاح السيسي أن يفعله اليوم لا يختلف في منطلقاته عما فعله بارك هي رئيس كوريا الجنوبية في السبعينيات من القرن العشرين، وما الأربعون عاما الفاصلة بين التجربتين إلا الفترة الزمنية التي تراجعت فيها مصر، وتقدم خلالها الآخرون. من هنا قد يكون مفيدا أن نتوقف أمام بعض الدروس المهمة، التي تمثل خلاصة تجربة كورية مهمة في حصار الفقر، ورفع مستوي معيشة المواطن، وتحسين نوعية الحياة الخاصة به، وهي التجربة التي شهدت قيادة حكومية في التفكير والتنفيذ، ومشاركة حقيقية من جانب المواطن المستفيد. في السبعينيات كانت كوريا الجنوبية تخطو علي طريق التصنيع، ولكن في ظل مشكلات تنموية قاسية في المناطق الريف مثل الفقر، تدهور المرافق، المجاعة الموسمية، وغيرها. وقد أيقنت القيادة السياسية وقتئذ أن المساعدات الخارجية ليست حلا، وينبغي الاعتماد علي الذات. أطلق الرئيس بارك هي مبادرة سياسية مهمة هي مشروع سايمول أندونغ-البعض يترجمها بحركة المجتمع الجديد-هدفه تقليل الفجوة بين الريف الفقير والحضر الذي يمضي بخطوات متسارعة علي طريق التصنيع، بما يتضمن الحد من الهجرة الداخلية، وتطوير نوعية الحياة في المجتمعات الريفية. شمل المشروع مراحل عديدة شهدت تزاوجا بين القرار الحكومي المتدفق من أعلي والمشاركة الشعبية علي المستوي المحلي. البداية كانت في تطوير حياة المواطن الفقير في الريف. قررت الحكومة أن تغير شكل الريف في القري التي شملها المشروع:تمهيد وتوسيع الطرق، شبكات صرف صحي جديدة، مياه نظيفة، ثم قدمت مساعدات وقروضاً للفلاحين لتطوير مساكنهم الخاصة:بناء بيوت جديدة غير الطينية التي يعيشون فيها، أسوار حول مزارعهم،تجهيز داخلي أفضل لمعيشة الأسرة داخل المنزل، الخ. وبعد أن تغير شكل الحياة حول المواطن، بدأت المرحلة الثانية من المشروع المتمثلة في توليد دخل أفضل لأهالي القري من خلال تطوير أساليب الزراعة، بناء مصانع صغيرة، شبكات للتسويق، الاتجاه نحو المزارع الجماعية، وبناء مخازن جماعية للمحاصيل، رافق ذلك توجه ثقافي بث في نفوس المستفيدين أهمية العمل الجماعي والاعتماد علي الذات، وضرورة التخلص من الفقر وبناء حياة أفضل، وقد كان للمشروع أهميته في بروز قيادات محلية من الرجال والنساء علي السواء اكتسبت خبرات مهمة من خلال العمل والتدريب، واستحضار المخزون الثقافي المحلي من التركيز علي العمل الجماعي، والانجاز، الجدية، وغيرها. وخلال عقد السبعينيات حقق المشروع نجاحات مهمة علي مراحل، وامتد إلي المناطق الحضرية ولم يعد يقتصر علي الريف. في الثمانينيات عقب اغتيال الرئيس بارك هي خفت بريق المشروع، ولم يعد بالكامل تحت إشراف الحكومة المركزية، ودخل القطاع الخاص طرفا فيه، لكن يظل له دروس مستفادة ينبغي علي أي مجتمع يود أن ينفض عن كاهله الفقر، مثل المجتمع المصري، أن يتوقف أمامها. أولا:الحكومة هي التي تغير حياة المجتمع إلي الأفضل، ولا يوجد غيرها، وسوف يظل مفهوم الصالح العام مرتبط بالعمل الحكومي، والكيانات الأخري في المجتمع قد تساعد، أو تندرج في خطط التنمية التي تضعها الحكومة، لكن ينبغي أن تظل الحكومة في موقع سائق المركبة. ثانيا:رغم أن طبيعة العمل الحكومي تنطوي علي قرارات فوقية إلا أن التنمية تحتاج إلي جانب ذلك مشاركة شعبية، من خلال قيادات محلية، وجمعيات أهلية، وروابط مجتمعية، تشارك في جهود التنمية، وتكون حارسة لها، وأمينة عليها، خاصة إذا كانت مشروعات التنمية تستهدف تغيير ثقافة المواطن نحو العمل والانجاز، مما يستدعي أن يكون جزءا من ماكينة المشروع، وليس متلقيا سلبيا لنتائجه أيا كانت. وأخيرا مشروع التنمية الناجح علي المستوي القومي يجب أن يسير بخطي متوازنة، يغلفه الصبر، يتفهم الناس طبيعته، ويحصدون نتائجه علي مراحل. بالتأكيد لم يخل مشروع سايمول أندونغ من مركزية وأحيانا فساد، وخلال مسيرته جري إدخال تعديلات علي نمط الإدارة الخاصة به لمواجهة هذه التحديات، لكنه شكل مناسبة مهمة لالتحام المواطن مع الحكومة لتغيير نوعية الحياة. المسألة ليست عسيرة، ويمكن لمجتمعات كثيرة استلهام التجربة في بعض جوانبها، خاصة إذا أرادت أن تخرج من حيز المشروعات المحدودة إلي التجارب التنموية القومية، التي ينبغي أن يكون المواطن حاضرا فيها. لمزيد من مقالات د. سامح فوزى