بعد ساعات من تشكل حكومة المهندس إبراهيم محلب نزل الوزراء إلي الشارع، وحرص رئيس الحكومة علي أن يذهب بنفسه إلي الجمهور. يستطلع رأيهم أثناء زياراته الميدانية. جهد طيب، لكنه غير كاف، يعتمد علي «اللقاء العابر»، والاستماع إلي «شكاوي الناس»أكثر ما يستند إلي منهج مستمر لهندسة مشاركة المواطن في المشروعات العامة. المواطن ليس هو الشخص الذي يلتقيه المسئول بشكل عابر، لكنه يمثل فئات اجتماعية بعضها يمتلك صوتا مرتفعا في التعبير عن مصالحه لأنها أكثر تنظيما، أو أوفر مالا أو قربا من السلطة، وبعضها لا يستطيع - تحت وطأة الفقر والتهميش - التعبير عن احتياجاته. المشاركة ترتبط بتمكين الفقراء والمهمشين من تغيير الواقع الذي يعانون منه. العبرة ليست باستدعاء الناس عشوائيا في تظاهرات، ولقاءات عابرة، ولكن الفيصل هو قوة المواطن، أي قدرته علي تغيير مجتمعه، شعوره بأنه يستطيع أن يفعل، وليس «كما مهملا» أو مفعولا به. في كثير من صور المشاركة التي عرفتها مجتمعات عديدة، ومن بينها المجتمع المصري، ظل المواطن محل تهميش يُستدعي حين تريد السلطة أن تستدفئ به في مواجهة تحديات خارجية أو صراعات داخلية، وتدير ظهرها له حين تشعر بالقوة والاستغناء. مشاركة المواطن الحقيقية هي القدرة علي التغيير: هناك تجارب دول عديدة استطاعت أن تٌخرج مواطنيها من دائرة التهميش، والفقر، والشعور القاسي بالعزلة الاجتماعية إلي آفاق المشاركة، الفعلية، الارتباط بالواقع، وتغيير نوعية الحياة. من هذه الخبرات تجربة مشاركة المواطنين في الميزانية العامة في مدينة «بورتو إليجري» في البرازيل. تضم «بورتو إليجري» - المدينة التي تمتلك طبيعة خلابة - اثنتين من المناطق الفقيرة هما «بور دو سول» و «نازار»، غيرت المشاركة الشعبية نوعية الحياة في كلتيهما. في السبعينيات من القرن العشرين تدهور المستوي الاجتماعي في المدينة إلي حد أن ثلث السكان كانوا يعيشون في مناطق عشوائية، شكلت بؤرا للعنف والجريمة. ومع وصول حزب العمال إلي السلطة في التسعينيات، ظهر اهتمام بمشاركة المواطنين علي المستوي المحلي. وفي غضون عشر سنوات، شهدت المدينة تجربة للمشاركة الشعبية ضمت آلاف المواطنين، كان لها أثر بالغ في تغيير نوعية الحياة. تشكلت مجالس من المواطنين علي المستوي المحلي تجتمع في شهر مارس من كل عام، تضم شرائح متنوعة وعريضة من السكان لمراجعة المشروعات علي المستوي المحلي، واقتراح مشروعات جديدة في ضوء الاحتياجات التي يقومون برصدها. يدير هذه الاجتماعات «ميسر» ليس له حق التصويت، وتنتهي النقاشات باختيار ممثلين عن السكان المحليين في شتي المناطق الجغرافية لوضع التصورات النهائية بشأن الميزانية قبل حلول شهر يوليو. هذه التجربة ترفع من مستوي شعور المجتمع المحلي بامتلاك المنشآت العامة، فضلا عن إيجاد فضاء عام يسمح بالحوار النقدي، وتطوير مهارات التفاوض، وبناء التفاهمات، وتكوين شبكات أمان اجتماعي. تجربة المشاركة الشعبية في تحديد الميزانية العامة مجرد مثال علي الاستدعاء المنظم الهادف للمواطن في الشأن العام، وهي ليست صعبة علي التنفيذ، ويمكن أن تعهد الحكومة إلي جمعيات أهلية بتنظيمها، أو تقوم مباشرة بها، وهو ما يجعل المواطن قريباً من الحقائق، مقدرا محدودية الموارد، مدركا أهمية ترتيب الألويات في ضوء الصالح العام، بدلا من رفع وعيه «الزائف» بأحاديث وردية عن واقع مليء بالتحديات ومناطق الالتهاب. في أدبيات التنمية ثلاث صور للمواطن: هناك المواطن «الخامل» تعتبره الحكومة أو النخب المسيطرة اقتصاديا «مريضا» يحتاج إلي دواء. لا يحق له المشاركة، وفي أحسن الحالات يكون موضوعا للعلاقات العامة، كل ما يشغل الحكومة، ويهيمن علي عقل المواطن هو سد احتياجاته الأساسية. وهناك المواطن «الصاخب»، يتمتع بحرية «الكلام» دون امتلاك القدرة علي «التغيير». في هذه الحالة تسعي الحكومة أو النخب المسيطرة اقتصاديا إلي تزييف وعيه بالمعلومات المبتسرة، وتشعل تطلعاته بالوعود الوهمية، وتحشده خلف شعارات عريضة دون أن تكون لديهم القدرة علي معرفة ما تقوم به الحكومة، وماهية الخطط والبرامج العامة ناهيك عن مساءلة القائمين عليها. ويٌلاحظ هنا أن استطلاع آراء المواطنين يتحول إلي «غاية» - استعراضية - وليس إلي «وسيلة» لتعميق مشاركة المواطن في تطوير العمل الحكومي. وهناك أخيرا المواطن «المشارك»، الذي يمثل صوته «قيمة» في المجتمع، يتشارك مع السلطة في وضع وتنفيذ وتقييم المشروعات العامة، ويطلع علي المعلومات الأساسية المرتبطة بها، ويقوم بمساءلة القائمين علي إدارتها. المواطن الخامل يعيش في الظل، والمواطن «الصاخب» يعيش في ثقافة الكلام والمعارك الإعلامية، أما المواطن المشارك فهو يمتلك قوة التغيير..هذا هو المواطن الذي نريده، ونتمني أن تريده السلطة أيضا. المسألة تتجاوز الشعارات والمشاعر، وترتبط في الأساس - ببرنامج عمل واضح تتبناه الحكومة لتعميق مشاركة المواطنين في الشأن العام، سواء باصدار قوانين تنظم مشاركة المواطنين في الميزانية العامة، وتلزم الوزارات بتنظيم جلسات استماع مع المستفيدين قبل الشروع في تبني أو تنفيذ أي مشروع عام، وتشكيل لجان مجتمعية لتفعيل مساءلة الإدارات الحكومية علي المستوي المحلي. إذا تحقق ذلك، يكون لخروج الملايين في 25 يناير أو في 30 يونيو المعني والمغزي والغاية. لمزيد من مقالات د. سامح فوزى