الإجراءات التقشفية الجديدة تكلفتها مرتفعة, ولكن هذا لا يقارن بالثمن الذي ستدفعه اليونان في حالة خروجها من العملة الأوروبية الموحدة فهي لن تجد من يقرضها وسوف نجد صعوبة في شراء الدواء والطعام وإحتياجاتنا الأساسية, وسوف تحدث فوضي إقتصادية. هكذا خاطب رئيس الوزراء اليوناني لوكاس باباديموس الشعب اليوناني وأعضاء البرلمان قبل تصويتهم علي إجراءات جديدة للتقشف في الدولة غير القادرة علي سداد ديونها, ومن أجل إستكمال برنامج مشترك مع الإتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي تحصل اليونان بمقتضاه علي قرض مشترك بمبلغ130 مليار يورو في شهر مارس المقبل, وهو ما كان قد تم الإتفاق عليه في أكتوبر الماضي. وعلي الرغم من الشغب الذي حدث في أثينا من حرق وسرقة وغضب وإضرابات وإحتجاجات فقد وافق البرلمان علي إقرار إجراءات جديدة للتقشف( إضافة لإجراءات بمبلغ12 مليار يورو تم إتخاذها في العام الماضي) يبلغ حجمها3.3 مليار يورو وتشمل تخفيض الحد الأدني للأجر من750 إلي600 يورو في الشهر, وتخفيض العمالة الحكومية بعدد15 ألف وظيفة إضافية بشكل فوري ضمن خطة لتخفيض العمالة بنحو150 ألفا حتي2015, بالإضافة إلي تعديل القانون لتحرير سوق العمل ضمن إجراءات أخري تم الإتفاق عليها. في الوقت نفسه فإن الإتحاد الأوروبي لم يبدو حماسا للخطوة التي إتخذتها اليونان حيث قام بإلغاء إجتماع مقرر لوزراء المالية للدول ال17 الإعضاء في نظام العملة الموحدة أمس للموافقة علي هذه الإجراءات, بل اشارت تصريحات بعض وزراء المالية إلي أن ما تم لا يزال غير كاف حيث لا بد من إتخاذ إجراءات أخري بمبلغ350 مليون يورو إضافية, كما أبدو تشككهم من ضمانات تنفيذ هذه الإجراءات في ظل تبكير الإنتخابات اليونانية لإختيار حكومة جديدة إلي منتصف إبريل المقبل بدلا من آخر العام, حيث طالبوا بقيام كافة رؤساء الأحزاب الرئيسية بالتوقيع لضمان التنفيذ. وعلي ما يبدو فإن بعض الدول الأوروبية أصبحت أكثر إستعدادا لفكرة خروج اليونان من اليورو, وهو ما أشار إليه منذ أيام وزير مالية لوكسمبورج, كما يشاركه في هذا الرأي دول كبري في الإتحاد الأوروبي مثل فرنسا وهولندا بل وألمانيا التي تواجه معارضة داخلية شديدة بسبب وجود رفض شعبي لفكرة تدعيم اليونان بمبلغ ضخم جديد. ولكن هناك شكوكا أيضا من جدوي الإجراءات التقشفية التي تقوم بها اليونان منذ ثلاث سنوات لإنقاذها من الإفلاس وللحفاظ علي مكانها داخل العملة الموحدة, وما إذا كانت هذه الإجراءات قادرة علي إخراج اليونان من أزمتها الإقتصادية, حيث تبدو بعض هذه الإجراءات وكأنها عقاب للشعب اليوناني أكثر منها خطة لإنقاذ الإقتصاد. ويشمل البرنامج الذي إضطرت اليونان لتنفيذه وهو مستمر حتي عام2015 بعض الإجراءات علي جانب زيادة الإيرادات مثل زيادة سعر ضريبة المبيعات من19% إلي23%, وزيادة سنوية في ضرائب الدخل, بالإضافة إلي فرض ضرائب جديدة لمساندة الإقتصاد تتراوح بين1-5% من الدخل, وزيادة الضرائب علي منتجات الطاقة والسجائر والكحوليات بمقدار الثلث, وبرنامج للخصخصة بقيمة50 مليار يورو حتي عام2015, كما يشمل علي جانب المصروفات تخفيض فاتورة أجور العاملين بالحكومة سنويا حتي عام2015 بمقدار15% للعاملين بالحكومة و30% للشركات العامة, وتخفيض العمالة من خلال نظام إستبدال كل10 يخرجون للمعاش بموظف واحد, بالإضافة إلي تخفيض سنوي في مصروفات الدفاع والصحة والتعليم والإستثمارات العامة والدعم. ولكن هذه الإجراءات ساهمت في ركود إقتصادي للعام السادس علي التوالي, حيث إنخفض الناتج المحلي بنسبة6% في عام2011 ومن المنتظر أن ينكمش الإقتصاد بنفس النسبة خلال العام الحالي. وبخلاف إنخفاض مستوي المعيشة خلال هذه الفترة بنحو الثلث فإن ضعف النشاط الإقتصادي أدي إلي تراجع الإيرادات علي الرغم من زيادة أسعار الضرائب, وتسبب في عدم قدرة اليونان الوفاء بالمؤشرات المطلوبة نسبة للناتج المحلي مما يستدعي القيام بإجراءات تقشفية تزيد من معاناة الإقتصاد والمواطنين. والأسباب لهذه المأساة في اليونان متعددة داخليا وخارجيا, فقد بدأت تظهر هذه المشاكل مع إندلاع الأزمة الإقتصادية العالمية في عام2008 وركود الإقتصاد العالمي, حيث إنخفض النشاط الإقتصادي وبالتالي الإيرادات التي تحصلها الدولة وفي نفس الوقت فقد كانت الحكومات مكبلة بكثير من الديون والمصروفات والمزايا التي تقدمها لمواطنيها نتيجة قوة النقابات العمالية في النظام السياسي اليوناني, وهو ما كانت تراه الشعوب الأوروبية الأخري بالمبالغ فيها ولا يتناسب مع تطور إقتصاد اليونان. في الوقت نفسه فإن وجود اليونان داخل نظام اليورو يجعلها تتبع السياسة النقدية الأوروبية والتي غالبا ما تخدم مصالح الدول الكبري فيها مثل ألمانياوفرنسا, وبالتالي فإن إقتصاد اليونان مثله مثل دول جنوب أوروبا الأخري واجه صعوبة في تنافسيته الخارجية وعاني من تزايد في إنخفاض معدلات النشاط الإقتصادي. وكل هذا صاحبه في زيادة معدلات الدين العام وفقدان الثقة في الإقتصاد وبالتالي إرتفاع تكلفة الإقتراض بنسب غير مسبوقة وصلت في بعض الأحيان إلي أكثر من30%. ولكن سيناريو خروج اليونان من اليورو لا يزال غير واضح وهو قد يتسبب في حدوث ذعر في النظام المالي ليس فقط محليا ولكن علي نطاق أوروبا بالكامل بل والأسواق المالية الكبري الأخري وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة. فإزاء العودة إلي عملة الدراخمة من المتوقع أن يتم تخفيض قيمتها بنحو50% علي الأقل من قيمتها الحالية مما سيؤدي إلي سحب الأموال من البنوك اليونانية والسعي للهروب بها إلي مناطق أخري فتقع اليونان في أزمة مالية اشد. وفي نفس الوقت فإن توقع أن يحدث نفس الأمر في دول جنوب أوروبا الأخري وخاصة البرتغال وأيرلندا وأسبانيا بل وإيطاليا يهدد النظام المالي في هذه الدول بل وعلي إستمرار اليورو كعملة أوروبية موحدة. كما ستعاني البنوك الأوروبية والأمريكية الكبري التي تحتفظ بمبالغ كبيرة من سندات الدول الأوروبية في محافظها المالية من أزمات كبري قد تهدد بإنهيارها. ورغم التكلفة الباهظة فيبدو أن كثير من الدول الأوروبية والبنوك الكبري بدأت الإستعداد لمثل هذا السيناريو. بل أن جزءا كبيرا من الشعب اليوناني اصبح يفضل الخروج من اليورو بل ويري أن ما تقوم به باقي الدول الأوروبية وفي مقدمتها ألمانيا هو نوع من الإذلال والإستغلال دون جدوي أو منفعة لهم في المستقبل, وأن حلم البقاء داخل اليورو ربما يكون قد قارب الإنتهاء.