بعد أن عجزت عن التوصل إلي برنامج داخلي للتقشف يقنع الأسواق العالمية بقدرتها علي الخروج من الأزمة المالية التي تمر بها, إضطرت البرتغال للإعتراف بعدم قدرتها علي الإقتراض من الأسواق لسداد ديونها . كما إضطرت للتوصل إلي إتفاق في الاسبوع الماضي مع صندوق النقد الدولي حول برنامج للإصلاح الإقتصادي لمدة ثلاث سنوات تحصل بمقتضاه علي قروض تبلغ78 مليار يورو من بينها26 مليار من الصندوق والباقي من دول الإتحاد الأوروبي بسعر فائدة منخفض. وتعد البرتغال ثالث دولة في منطقة اليورو بعد اليونان وأيرلندا التي تلجأ للآلية المشتركة بين الإتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي لإنقاذ دول المنطقة التي تمر بأزمات مالية, حيث تعاني دول جنوب أوروبا خاصة من مشاكل هيكلية تؤثر علي تنافسيتها وقدرتها علي النمو, وتفاقمت هذه المشاكل بسبب الأزمة المالية العالمية التي أثرت علي النشاط الإقتصادي بها منذ عام2008, وهو ما أدي إلي إنخفاض الإيرادات الحكومية وفي نفس الوقت عدم قدرة الحكومات علي خفض مصروفاتها, وبالتالي زيادة العجز في موازنات الدول وإرتفاع معدلات الدين العام إلي مستويات مرتفعة غير مسبوقة, صاحبها تخوف الأسواق المالية من عدم قدرة هذه الدول علي سداد مديونياتها. وزاد من حدة الأزمة الصعوبات التي تواجهها ميزانيات البنوك والمؤسسات المالية في المنطقة بسبب الأزمة المالية العالمية. ويكتسب إنقاذ إقتصاد البرتغال وجنوب إوروبا أهمية كبيرة نتيجة التخوف العالمي من إنتقال هذه الأزمة من دول الجنوب إلي قلب أوروبا والدول المنضمة حديثا إلي الإتحاد الأوروبي مما يهدد منطقة اليورو وتجربة العملة الأوروبية الموحدة بالكامل. وأظهرت البيانات الصادرة عن منطقة اليورو أمس الأول أن الإقتصاد البرتغالي حقق إنكماشا في الربع الأول من هذا العام( معدل نمو إقتصادي سلبي بلغ0.7%) للربع الثاني علي التوالي, كما أن البرتغال حققت أقل معدل للنمو في منطقة اليورو خلال العقد الماضي. وكانت البرتغال قد حققت عجزا في الموازنة العامة يبلغ9.3% في عام2010 ومن المنتظر إرتفاعه هذا العام, كما ينتظر أن يبلغ الدين العام أكثر من103% من الناتج في نهاية العام. ويبلغ معدل البطالة في البرتغال أكثر من11%, ويعتبر القطاع العائلي من الأعلي مديونية مقارنة بدول الإتحاد الأوروبي الأخري, وهذه العوامل مجتمعة تجعل مستقبل الإقتصاد البرتغالي في خطر وإمكانية عدم سداده للديون مرتفعة, مما يزيد من أسعار الفائدة علي القروض الموجهة بشكل كبير. وكان رئيس وزراء البرتغال خوزيه سقراطس قد حاول تفادي اللجوء لصندوق النقد الدولي من خلال إقتراح برنامج تقشفي داخلي, إلا أنه لم يستطع تمريره في البرلمان خلال شهر مارس الماضي بسبب المعارضة الشديدة, مما أدي إلي تقدمه بالإستقالة والإعلان عن إنتخابات مبكرة في5 يونيو المقبل, مع إستمراره في منصبه لتسيير الأعمال. ويستهدف البرنامج المتفق عليه مع صندوق النقد الوصول بعجز الموازنة إلي3% من الناتج بحلول عام2013 وتحقيق الإستقرار في معدلات الدين العام. إلا أن تكلفة هذا البرنامج ليست بالقليلة. فتتضمن الإصلاحات الهيكلية المرتقبة تخفيض مساهمة القطاع العام في النشاط الإقتصادي, وتعديل السلوك الريعي والأرباح الهائلة في القطاعات غير التجارية. كما تشمل إجراءات محددة لخفض الدعم علي الكهرباء, وتسهيل دخول لاعبين جدد في سوق الإتصالات, وتحرير أكبر في أسواق المهن الحرة. كما تتضمن خفض مزايا الضمان الإجتماعي الذي يتمتع به العاملون مما يقلل من تكلفة العمالة, بالإضافة إلي إصلاحات هيكلية في سوق العمل. وعلي جانب الإيرادات فإن التركيز سوف يتحول للإعتماد بشكل أكبر علي زيادة الضرائب غير المباشرة والضريبة العقارية, بالإضافة إلي توسيع القاعدة الضريبية بالنسبة لضريبة الدخل. وكان قد تم تطبيق إجراءات أخري سابقة قبل الإتفاق علي البرنامج مثل تخفيض أجور كبار الموظفين بالدولة بنسبة5%, وزيادة ضريبة المبيعات بنسبة1%, وفرض شريحة أعلي علي ضريبة الدخل, بالإضافة إلي حدوث إنخفاض حاد في مصروفات الجيش, والتوقف عن تنفيذ مشروعين للسكك الحديدية. وفي تعليقه علي الإتفاق قال دومينيك شتراوس-كان العضو المنتدب لصندوق النقد الدولي أن هذا البرنامج طموح وسوف يتطلب تضحيات من الشعب البرتغالي, ولكنه سيقود الإقتصاد البرتغالي لكي يكون أكثر ديناميكية في تحقيق النمو وإيجاد فرص العمل علي المدي المتوسط. إلا أن المعارضين لبرامج التقشف الإقتصادي التي يتبعها صندوق النقد الدولي مثل جوزيف ستيجليتز الأستاذ بجامعة كولومبيا بنيويورك والحاصل علي جائزة نوبل في عام2001 يرون أن مثل هذه البرامج لا تساعد الإقتصاد حيث تدخل به إلي مزيد من الركود والبطالة ويزيد من فترة الأزمة ويقلل فرص الخروج منها. ويدلل أصحاب هذا الفكر بما يحدث في الإقتصاد الأمريكي الذي إتبع علي عكس روشتة الصندوق مع أوروبا علي سياسة توسعية رغم إرتفاع معدلات العجز الحكومي بضعف مستواها في الإتحاد الأوروبي مما أدي إلي خروج الولاياتالمتحدة بشكل أسرع من الأزمة وتوليد فرص عمل أكبر وتخفيض معدلات البطالة. وسيظل اللجوء إلي مساندة المجتمع الدولي شرا لابد منه إذا ما عجزت الحلول الداخلية ولإستعادة ثقة المستثمرين ومؤسسات التمويل الدولية. إن ثمن الإصلاحات والحصول علي دعم المجتمع الدولي مرتفع جدا سياسيا وإقتصاديا, وتتحمله دائما الشعوب راغبة كانت أم مرغمة.. ولكنه في بعض الأحيان مثل حالة البرتغال واليونان يظل حتميا حتي لا يحدث الإنهيار.