بدا الاتحاد الأوربي بين 27 دولة كإعادة تشكيل إرادي للتاريخ والجغرافيا والاقتصاد ولكن الصعوبة التي يشهدها اليوم متجسدة في أزمة اليونان المالية والاقتصادية التي نتجت من التسرع بضم عدد كبير من الدول متباينة التطور يصعب ضمان التزامها ببرنامج موحد.. بالإضافة إلي أنه برنامج لا وجود له حتي الآن بشكل محدد. ففي داخل "الاتحاد" دول ذات اقتصاد متين وأخري اقتصاديا منهكة وتكاد تقترب من بلدان العالم الثالث. وكمثال، من بين الدول التي تمر بحالة صعبة بعض دول أوربا الشرقية التي ضمها الاتحاد لأسباب إستراتيجية اقتصاديا وعسكريا. ويضاف دول أكثر أهمية مثل اسبانيا والبرتغال واليونان. غير أنه يرتفع في كل منها معدلات البطالة بشكل يهدد كياناتها الاقتصادية والاجتماعية وتشكل ديون الدولة مشكلة دائمة. وتمر بلجيكا بمشاكل سياسية تهدد وحدتها وتعود إلي القرن التاسع عشر وتتعمق نتائج إدخال عاملي الاختلاف اللغوي والديني في قلب الصراع السياسي. إذ تتعايش بصعوبة ثلاث لغات هي الفرنسية والهولندية والألمانية وتمزق المجتمع الانتماءات الدينية خاصة بين الكاثوليكية والبروتستانتية بالإضافة للتباين في السيطرة علي الموارد الاقتصادية لتكون لصالح أتباع البروتستانتية. في تلك المرحلة يواجه الاتحاد الأوربي العديد من هذه المشكلات ويعجز عن تقديم حل نهائي لها علي الأقل مرحليا. فلم يتكفل "الاتحاد"وحده بتقديم القروض التي تطلبها اليونان لمواجهة مخاطر إفلاس الدولة. فلأول مرة في تاريخ مجموعة الدول التي اعتمدت اليورو كعملة مشتركة (16 دولة) يتدخل صندوق النقد الدولي لمراقبة السياسة المالية والنقدية والاقتصادية لدولة من دول "الاتحاد" مع ما يحمله ذلك من مهانة كأن تعامل كدولة عالم ثالث تفرض عليها سياسة تقشف وسحب يد الدولة من الشئون الاجتماعية. فديون اليونان بلغت 300 مليار يورو وهي نسبة تزيد علي ما حددته "اتفاقية ماستريتش" (نوفمبر 1993). إذ لا يحق للدول الموقعة علي الاتفاقية بأن تتجاوز ديونها 60 % من الناتج المحلي الإجمالي. ولكن بالنظر لمعظم الدول الأوربية يتضح أن الكثير منها تفوق ديونها تلك النسبة. فطبقا لمعلومات "اللجنة الأوربية" مازالت ديون 5 دول من 16 دولة أدني من النسبة المحددة وهي (لوكسومبورج، سلوفاكيا، سلوفينيا، فنلندا، قبرص). أما الدول الأخري فترتفع نسب ديونها بصورة كبيرة مثل هولندا (65,6%)، اسبانيا (66,3%)، مالطة (71%)، النمسا (74%)، ألمانيا (76,7%)، فرنسا (82,5%)، ايرلندا (83%)، البرتغال (84,4%)، بلجيكا (101,2%)، ايطاليا (116,7%) واليونان (125%).. وبالتوقف عند اليونان، بحسب تقرير في موقع مجلة "نوفيل اوبسرفاتير" في 29 ابريل، أدي التدهور باقتصاداتها إلي وضع حرج إذ يلزمها 30 مليار يورو لهذا العام لتسديد ديونها الخارجية وفوائدها. شروط الصندوق وتتابع المشاورات لإيجاد المخرج السريع وبعد اجتماع عاجل في قصر الرئاسة الفرنسية، في أول مايو، أعلنت "كريستين لاجارد"، وزيرة الاقتصاد، بأنه تم التوصل لاتفاق بمنح قروض- المساعدات بنحو 120 مليار يورو منها 15 مليار يورو من صندوق النقد الدولي لمدة 3 سنوات. وسوف تسهم ألمانيا بمبلغ 25 مليار يورو و فرنسا بمبلغ 20 مليار يورو وباقي دول الاتحاد تقرر المساهمة من عدمها قبل منتصف مايو في اجتماع دول الاتحاد". (كان قرار الاتحاد الأول منح 30 مليار يورو فقط بجانب مساهمة "الصندوق"). ويضع "الاتحاد" و"الصندوق" شروطا مرهقة اقتصاديا واجتماعيا علي اليونان لإتباعها قبل الموافقة علي منحها القروض من الجهتين. وتزداد متاعب اليونان مع تدهور أحوالها واستغلال الأسواق المالية لهذه الأوضاع في رفع معدلات الفائدة لإقراضها كدولة معرضة للمخاطر أي لعدم ضمان تسديدها للديون. مع العلم أن سعر الفائدة علي الاقتراض من البنوك الدولية هي 10 % لقرض طويل الأجل (10سنوات)، أما لقرض لعامين فيرتفع سعر الفائدة إلي 18 %. وفي ذات الوقت ترفض البنوك منح اليونان القروض اللازمة. وتختلف الآراء حول احتمال إفلاس اليونان. فمدير البنك المركزي الأوربي، "جان-كلود ترشيه" يستبعد عجز اليونان عن تسديد ديونها في حين يقول الاقتصادي الألماني "هانس-فيرنر سين"، "لن تقدر اليونان أبدا علي تسديد ديونها". وبرغم أن اليونان ليست إلا بلدا صغيرا في داخل المجموعة الأوربية حيث لا يمثل نصيبها من الناتج الإجمالي الأوربي إلا 3 % إلا أن عجزها عن سداد ديونها ستكون ضربة للبنوك الأوربية. فمثلا ستخسر فرنسا في حالة عدم السداد نحو 51 مليار يورو. فعدم السداد سيضر مباشرة الاقتصادات الأخري المقرضة وسيشكل وباء ينتشر للبلدان الأوربية الأخري ذات الديون المرتفعة والتي تضيق أسواق المال الخناق عليها. وكذلك فان العاقبة هائلة الضرر علي اليورو كعملة وبدأ بالفعل يتضرر من مجرد ظهور الأزمة اليونانية. فلم يكن انخفاض البورصة فقط في اليونان بل لحق بدول "الاتحاد" الأخري وخاصة في معدلات التبادل بين اليورو والدولار. فلقد انخفضت قيمة اليورو بنسبة 10% ما بين نوفمبر الماضي ومارس وبلغ أكبر مستوي انخفاض له في 27 ابريل وهو معدل لم يصل له منذ سنة. فالمضاربات سوف تهدف لشن الحرب علي عملة "الاتحاد" لإضعافها. مطالبة بالطرد وترددت تساؤلات حول احتمال طرد اليونان من جماعة اليورو غير أنه يستلزم تغيرات في الاتفاقية المشتركة وهو ما تطالب به المستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل". ولكن الخروج من مجموعة اليورو يعني الخروج أيضا من الاتحاد الأوربي ويستلزم الموافقة بالإجماع أي أن تقرر اليونان أيضا ترك الاتحاد الأوربي وهو ما يعتبر مستبعدا حتي الآن إذ يعني العودة للعملة القديمة وسوف ينتج عنه تهريب رؤوس أموال وانخفاض في قيمة العملة الجديدة في أسواق المضاربة. وفوق ذلك سيعني فشل فكرة العملة الموحدة وانهيارها وأنها صالحة للاقتصادات الكبري فقط. ومن ناحية أخري فمطالب الاتحاد الأوربي وصندوق النقد الدولي من اليونان عنيفة اقتصاديا إذ يلزمها بتخفيض القوة الشرائية للشعب بما بين 10 % و30 % (عمليا سيكون ذلك بإلغاء اجري الشهرين 13 و14 من أجور الموظفين.. فالعمل 12 شهرا وتلقي اجر 13 أو 14 شهرا وهو أحد مكاسب النضال الاجتماعي في الغرب في العديد من الدول). ويضاف رفع سن الخروج علي المعاش إلي 67 سنة بدلا من 53 في المهن الصعبة وزيادة الضرائب غير المباشرة علي السلع أي زيادة نسبة استقطاع من أثمان السلع لتمويل خزينة الدولة. وبرغم موافقة الحكومة فسيكون اتخاذ هذا القرار صعب التنفيذ لأن اليونان تطبق منذ شهور قليلة سياسة تقشف كبيرة ومازالت تدفع بالآلاف في الشوارع في مظاهرات عنيفة وإضرابات عن العمل. ويزداد عنف الشارع بقبول قروض من صندوق النقد الدولي وما يطالب به من سياسات ترفضها الجماهير. وهاجم الحزب الشيوعي اليوناني علي موقعة في الإنترنت "السياسة الرامية لأن يدفع الشعب ثمن أخطاء الدولة وهي السياسة التي تتضرر منها الغالبية بمد سن العمل 15 سنة إضافية لبعض الفئات ورفع الضرائب علي الاستهلاك والضرائب غير المباشرة بينما تقوم الدولة بتخفيض الضرائب عن كبار أصحاب الأعمال." وكانت مظاهرات أول مايو "عيد العمال" كبيرة في الكثير من المدن اليونانية إذ جمعت ما يزيد علي 200 ألف متظاهر. وأعلن 51 % من اليونانيين نيتهم الخروج في مظاهرات والقيام بإضرابات لمعارضة السياسة التقشفية. مصائب قوم وكما يقال "مصائب قوم عند قوم فوائد" فالدول التي سوف تمنح اليونان قرضا ستقوم هي ذاتها باقتراض من السوق المالي بسعر فائدة 3% وتمنح القروض لليونان بسعر فائدة 5 % !! (فمنطقة اليورو لا يمكنها الاقتراض من البنوك المركزية مثلما هو الحال في الولاياتالمتحدة وبريطانيا واليابان). ولقد هاجم "ادرور بلادير"، الذي صاغ اتفاقية "ماسترتيش" وأحد المنظرين لفكرة العملة الموحدة، هاجم السماح لصندوق النقد الدولي بالتدخل وان الدول الأوربية كفيلة بمساعدة اليونان وحدها وسخر من سياسة دول الاتحاد التي تمارس المكسب المالي علي حساب الشعب اليوناني. وذات الهجوم شنه "دانييل كون-بنديت"، زعيم تحالف أحزاب الخضر منددا "بالمضاربة" الألمانية والفرنسية وعدم التعاضد بين مجموعة الاتحاد.