قامت ثورة يوليو بتحقيق حلم عميد الأدب العربى طه حسين بأن يكون التعليم كالماء والهواء، حقا لكل مصرى، عندما تبنت مجانية التعليم المطلقة، ولكن تلك المجانية لم تعد تحقق هدفها الأسمى وهو ترقية العقل المصرى بل صار عبئا عليه بعد ستة عقود من تطبيقها، أدت إلى انهيار التعليم وإلى نهاية المجانية فى الوقت نفسه، على نحو يفرض علينا التحول عنها إلى مجانية رشيدة، أكثر قدرة على تحقيق الهدف الأسمى. تبدى حلم العميد فى الثلاثينيات، وقد تحقق فى الخمسينيات، فى وقت لم يكن تعداد مصر قد جاوز العشرين مليونا، ولم يكن كثير من المصريين متعلمين أو قادرين على تلبية حاجة الجهاز الإدارى للجمهورية الوليدة، أو لخطة التنمية الاقتصادية التى شرع ناصر فى إنجازها، حتى إن كثيرين تم توظيفهم فى الخمسينيات والستينيات لمجرد أنهم يجيدون القراءة والكتابة، بل وصل البعض إلى مواقع متقدمة بجهاز الدولة كوكيل وزارة لأنه، فقط، حصل على شهادة متوسطة. لقد كانت مصر بحاجة إلى تشغيل واسع، وكان المتعلمون قليلين بالمطلق، وبالنسبة إلى عدد المصريين، ولذا كانت المجانية ضرورة لتشغيل دولاب الدولة. وقد استمر الوضع على هذا النحو حتى تضخم الجهاز الإدارى بفعل نظام التوظيف التلقائى للخريجين، والذى توقف عام 1984م. وهنا بدأت مشكلة بطالة المتعلمين، خصوصا الجامعيين، ثم أخذت تتفاقم عبر عقود ثلاثة مضت وصولا إلى حد الكارثة. يعنى ذلك أن ما كان حلما فى الثلاثينيات من القرن الماضي، وصار واقعا جميلا فى خمسينيات القرن نفسه، أصبح واقعا مريرا فى هذا القرن، على نحو يفرض إعادة النظر فى مفهوم المجانية (المطلقة)، لمصلحة مجانية رشيدة تلبى الحاجة (الفعلية) لدولاب العمل الجديد داخل وخارج جهاز الدولة. ما أود قوله صراحة أن تعليما مجانيا من دون توظيف تلقائى يساوى أزمة بطالة كبرى، ومادامت أن الدولة غير قادرة على التوظيف التلقائى، فالواجب عليها التقليل كميا من عدد الخريجين خصوصا الجامعيين، مع تحسين نوعيتهم لزيادة قدرتهم على تلبية حاجة السوق الجديدة بكفاءة عالية، وهو تحول يستلزم التحول نحو نوع من المجانية الرشيدة. فالمعروف أن التعليم الجيد خدمة مكلفة يجب على من يطلبها أن يدفع مقابلا لها، مقابل أن تحسب الدولة حسابه وهى تخطط لمستقبلها، فتتيح له، بجهد يسير، الحصول على عمل مشبع، يدر دخلا كافيا لحياة كريمة. وهو ما يفسر حقيقة انخفاض نسبة البطالة بين المتعلمين، خصوصا أصحاب الشهادات العليا فى الدول المتقدمة، على رغم نسب البطالة المرتفعة أحيانا فى بعضها. أما فى مصر فالوضع يسير فى متوالية جهنمية: تعليم مجانى بدأ جيدا ثم تدهور بشدة ليصير عشوائيا، ومعه أصبح خريجونا أقرب إلى الجهل منهم إلى المعرفة. وسياسة توظيف تلقائى توقفت قسريا، بينما آلة التخريج تعمل بكثافة، على نحو أنتج بطالة سافرة فى جل الأحيان. على الدولة المصرية إذا ما أرادت كسر هذه الحلقة الجهنمية، التخلص من مجانية التعليم المطلقة، لصالح مجانية رشيدة، بحيث تشارك كل أسرة فى تعليم أطفالها بتكلفة معقولة حسب مستوياتها المادية وليكن ذلك عبر مستويات ثلاثة من البنية الأساسية: المستوى الأدنى فى الريف والمناطق الشعبية من المدن الكبرى، وليكن بألف جنيه، فى العام. والأوسط بألفى جنيه فى المناطق الحاضنة للطبقات الوسطى فى المدن الكبرى. والأعلى فى المناطق الأكثر تحضرا، وليكن بثلاثة آلاف جنيه. بهذه التكلفة المعقولة يحصل الطالب على تعليم جيد تحت إشراف الدولة الكامل، بديلا عن المدارس الخاصة التى تقدم تعليما جيدا بآلاف الجنيهات، وأحيانا بعشرات الألوف، أو فى موازاة هذه المدارس مادم استمر الطلب عليها، ولكن تحت الإشراف الكامل للدولة. والأمر نفسه ينطبق على التعليم الجامعى مع زيادة نسبية للتكلفة المادية، تتوافق مع طبيعة البنى الأساسية، المطلوبة لهذا النوع من التعليم. وبدلا من الفلسفة القديمة: تعليم مجانى لكل مواطن، يمكن اعتماد فلسفة جديدة: تعليم مجانى لكل موهوب، بحيث تتحمل الدولة تكلفة التعليم الجامعى للموهوبين فى التعليم الثانوي، وذلك عبر منح مجانية، يتم تغطيتها من الطلاب القادرين، وهى تكلفة محتملة لأن هؤلاء لن يزيدوا بحال على 5% من عدد الطلاب، وليتنازل طه حسين عن حلم المجانية الكاملة، كى تتخلص مصر من آلامها المزمنة. وفى المقابل على الدولة أن تريح المجتمع من عبء (الدروس الخصوصية) تلك الظاهرة التى باتت تستهلك طاقته ماديا ونفسيا، وتجعل من مجانية التعليم مهزلة كبيرة، تحرم الدولة مما تستحقه كمقابل عادل لخدمة تؤديها، وتمنح للمدرس عشرات أضعاف مايستحقه مقابل دوره التعليمى المفترض أن يؤديه داخل المدرسة، لأنه تقاضى الأجر عنه من الدولة، فتكون النتيجة أن يدفع الطالب للدولة خمسين جنيها تقريبا مصروفات، وللمدرس عشرة آلاف جنيه فى المتوسط، تزيد كثيرا لدى طلاب الثانوية العامة الذين توقفوا تماما عن الذهاب إلى المدرسة، وذلك مقابل تعليم سييء يقوم على الحشو السريع للمعلومات. الواجب على مصر إذن التخلى عن الشعار المزيف (المجانية المطلقة)، والتوجه نحو مجانية رشيدة تفرض مصروفات معقولة مقابل تعليم محترم، يكفى لتخريج طلبة جيدين، عبر التوسع فى بناء المدارس لتستوعب الطلبة بكثافة معقولة، وفرض نظام اليوم الكامل الذى تتعدد فيه الأنشطة التعليمية والتثقيفية. وفى المقابل يتوجب القضاء تماما على مافيا الدروس الخصوصية عبر تشريع حاسم يجرمها، وعقاب رادع لممارسيها، فالمدرس الذى يوفر جهده مدفوع الثمن، ليعيد بيعه إلى الطلاب عشرات المرات، هو لص يسرق الدولة ويخون المجتمع، ويقضى على فكرة المدرسة وعلى مفهوم المجانية فى آن. لمزيد من مقالات صلاح سالم