ماراثون شاق يبدأه طلبة الثانوية العامة وينتهي بمجرد اطمئنان الاهل علي التحاق ابنائهم باحدي الكليات في اي جامعة حكومية, وكل أملهم ان تنتهي سنوات الدراسة بنيل شهادة الليسانس او البكالوريوس, ليبدأ بعدها كابوس البحث عن وظيفة.. الاف الخريجين ينضمون سنويا لسوق العمل بلا اي تأهيل حقيقي, فلا هم استفادوا من دراستهم بالجامعة ولا استفاد منهم المجتمع.. اصابع الاتهام توجه الي مجانية التعليم العالي التي جعلت الكل يرغب في دخول الجامعة حتي وإن لم يكن يرغب في ذلك بشكل جدي, وانما تحركه بالاساس اعتبارات اجتماعية وثقافية, ليزاحم اخرين لديهم رغبة حقيقية في الحصول علي تعليم حقيقي وليس مجرد شهادة, وفي النهاية تتساوي قيمة الجميع.. خبراؤنا في هذا التحقيق يمنحون شهادة البراءة لفكرة التعليم المجاني, ويرون ان تدهور مستوي التعليم الجامعي في مصر راجع الي اسباب اخري تماما, مشددين علي انه لا يجوز باي حال المساس بتلك المجانية.. التعليم العالي ليس ترفا شقان يحددهما الدكتور معتز خورشيد وزير التعليم العالي الاسبق- حتي تتضح الصورة, وهما الاتاحة والجودة, فنحن كما يؤكد خورشيد نعاني مشكلة في الاتاحة, فوفقا للمواثيق الدولية في عصر المعرفة, لابد ان تلتزم الدول باتاحة التعليم الجامعي للفئة العمرية من18 الي23 عاما.. فنلندا مثلا وهي من اقوي الدول في مجال التعليم العالي, توفره مجانا فلا يدفع الطالب اي مصروفات حتي درجة الدكتوراه, حيث تقوم الدولة بتوفير دعم يعادل50% من النفقات, بينما يتوفر النصف الثاني من خلال ما يعرف ب مراكز التعلم مدي الحياة, ومهمتها بالاساس تقديم دورات تدربيبة وتاهيلية مقابل مصروفات, ومن خلال تلك الموارد تدعم الجامعات, نفس الامر بالنسبة لفرنسا والمانيا. ويشير خورشيد الي ان الدراسات الحديثة تؤكد ان الالتحاق باسواق العمل في العصر الحالي يتطلب ان يكون الفرد اجتاز علي الاقل السنة الاولي من التعليم الجامعي, وللتغلب علي مشكلة الاتاحة فلابد من تشجيع الاستثمار في مجال التعليم, ويتابع70% من نفقات الجامعة توفرها ذاتيا من مصادر خاصة بها, اما الدعم الحكومي فيغطي فقط الرواتب والاجور, واذا كنت اري ان المجانية ليست المسؤولة عن غياب الجودة, فمع ذلك اري ان المجانية في ظل نقص الطاقة الاستيعابية لمزيد من الطلاب, ستكون احد عوامل غياب الجودة, لكن ليس معني ذلك ان يتم الغاؤها, بل علي الدولة ان تستكمل توفير المزيد من المنشات الجامعية لاستيعاب الطلبة, بالتعاون مع كافة الاطراف سواء المجتمع المدني او القطاع الخاص. وللتدليل علي وجهة نظره يكشف خورشيد عن ان مصروفات الجامعات الخاصة الباهظة لا يقابلها جودة, فخريجو تلك الجامعات مجرد شريحة لديها قدرات مالية لكنها متدنية في القدرات الدراسية. وحول البرامج الجديدة مدفوعة الاجر في الكليات الحكومية, يقول خورشيد: صحيح ان الطالب يدفع18 الف جنيها في العام ويحصل علي خدمة تعليمية متميزة لكن في النهاية يتخرج طالبان من الكلية ذاتها بنفس الجامعة, لكن كل منهما بمستوي تعليمي متفاوت, وهو امر بلاشك عبثي وغير مقبول. النظام الامريكي الدكتور ايمن منصور-الاستاذ بكلية الاعلام بجامعة القاهرة- يعكف حاليا علي اعداد رسالته للدكتوراه في احدي الجامعات الامريكية, ومن خلال تعامله مع مجتمع الجامعة هناك يقول: التعليم الحكومي الجامعي بمقابل وليس مجانا, ولكن ذلك يتم عبر برامج تمويلية للطلاب تقدمها البنوك, ويقوم الطالب بتسديد ما اقترضه علي مدي عشرين عاما, اما الجزء المجاني فيكون من خلال المنح الدراسية التي تمنحها الجامعات, ويستفيد منها الطلبة الذين تفوقوا في دراستهم الثانوية, او لغير القادرين لكن بشروط معينة يتم تحديدها, بحيث يقوم بتسديد ما حصل عليه بشروط ميسرة, وكل ما يتعلق ببند الدراسات العليا يكون ايضا بمصروفات, اما لدينا في مصر فان عدد الطلبة المسجلين لدرجتي الماجستير والدكتوراه في اعلام القاهرة وحدها يعادل ثلاثة اضعاف عدد المسجلين في تخصص الاعلام بالجامعات الامريكية جميعها في عام واحد!! والسبب انه لا توجد شروط حقيقية للتسجيل,فضلا عن ان المصروفات زهيدة لا تتجاوز1500 جنيه في العام. من جهة اخري, التعليم في الخارج يسهم في ترقية الفرد اجتماعيا واقتصاديا فمن يتعلم جيدا يضمن الحصول علي وظيفة جيدة, وبالتالي دخل جيد, اما لدينا فاعلي نسبة بطالة تكون بين حملة المؤهلات العليا, ولا احد يعمل في مجال تخصصه وهو اهدار لما انفقته عليه الدولة. المشكلة كما يراها الدكتور ايمن ليست ايضا في المجانية, فالجامعات الخاصة كالجامعة الالمانية والبريطانية والكندية تتلقي اموالا ومصروفات باهظة لكنه لم ير اي فرق بين خريج تلك الجامعات وبين خريج الجامعة الحكومية- ويتحدث عن خريج الاعلام بحكم تخصصه- والسبب من وجهة نظره ان الكوادر المنوط بها تقديم الخدمة التعليمية, غير مؤهلة او مدربة, ويضيف الاكاديمية الدولية لعلوم الاعلام تملك احدث استديوهات لكن التدريب لا يتم بالشكل المآمول, اذن فالموارد وحدها لا تضمن خدمة تعليمية جيدة. الروشتة ببساطة- والكلام للدكتور ايمن- هو انشاء جامعات+ موارد+ تدريب, فمازلنا بحاجة لانشاء المزيد من الجامعات, فكل ولاية امريكية يوجد بها ما بين10 الي12 جامعة, لكن دون تزويدها بالكوارد فلا قيمة لها, ولنقتدي بالسعودية التي قررت ارسال الف طالب سنويا للحصول علي درجة الدكتوراه من الجامعات الامريكية في مختلف التخصصات ليكون لديها خلال عشرة اعوام عشرة الاف عالم. الجودة لا تتعارض مع المجانية المجانية لا تعني التعليم الرخيص.. هذا ما ينفيه بشدة الدكتور كمال مغيث- الخبير التربوي- ويتابع للاسف هناك من يقول اذا كنتم مصرين علي المجانية فلا تسالوا عن الجودة ولهذا انتهينا الي ما نحن فيه واصبح حملة الليسانسات والبكالوريوسات لايعون شيئا, واخشي عندما ندعو للبحث عن مصادر اخري للانفاق علي التعليم ان ترفع الدولة يدها عن واجبها وتعتبر التعليم مسؤولية كل متعلم, وتنسي انها ملزمة بتمكين كل الراغبين فيه من الحصول علي تعليم جيد وحقيقي, وهنا لابد ان تضع الدولة معيارا لمعني الراغبين فيه, فمن يرسب يدفع تكاليف السنة الدراسية, ولا مانع من ان تكون هناك شريحة معينة تدفع نفقات تعليمها فمن يكون دخل اسرته30 الف جنيه في الشهر لا مانع من ان يدفع10 الاف في العام, لكن تظل الدولة مسؤولة عن اتاحة التعليم الجامعي, وعليها ان تشجع علي الاستثمار فيه. الدكتور اشرف حاتم- الامين العام للمجلس الاعلي للجامعات- يكشف لنا عن مفارقة حقيقية, فرغم كل هذا التكدس في مدرجات الجامعات الحكومية, الا انه يظل25% فقط من طلبة الثانوية العامة هم الذين يلتحقون بالجامعة والسبب انه لا توجد اماكن كافية بالجامعات لاسيتعابهم, ويضيف لدينا الان23 جامعة حكومية, اما تركيا مثلا وهي اقل منا تعدادا- بها200 جامعة حكومية من بينها جامعات اهلية لا تهدف للربح. ويؤكد حاتم علي الفكرة ذاتها وهي ان المجانية ليست عائقا امام تحقيق الجودة, ففي المانيا وفرنسا وكندا التعليم مجاني في الجامعات الحكومية, فالطالب الذي ينجح لايجب ان يدفع, و المواطن يدفع الضرائب ومن حقه الحصول علي تعليم مجاني,وما يحدث ان كل جامعة تحدد عدد الطلية الذي تقبله كل عام وعلي اساسه تاخذ دعما من الدولة ليناسب هذا العدد, اما لدينا فاعداد الطلبة في تزايد والموارد المتاحة لا تكفي, ويختم حاتم حديثه الحل موجود لدي الدول التي سبقتنا علينا فقط ان نبحث عنها كما في ماليزيا والهند والبرازيل وتركيا والدول الاوروبية.. ببساطة نقلدهم ولا نخترع نظاما جديدا. الايدي العاملة المهندسة المعمارية داليا السعدني- والتي كانت مرشحة لشغل حقيبة البحث العلمي في الوزارة الحالية- تتفق علي ان الدولة ملزمة بدعم المتفوقين بل وارسالهم في بعثات, وتري ان المجانية في حد ذاتها ليست مشكلة, لكن اذا كان واجب الدولة ان تعلم مواطنيها مجانا فهي ملزمة ايضا بتوفير فرص عمل لهم, والا فما يحدث هو استنزاف لموارد الدولة التي هي بالاصل محدودة. مقترح داليا يتمثل في تشجيع الدولة للمستثمرين في التعليم العالي, فتوفر لهم الارض مجانا لينشئوا كليات جديدة, لكن بشرط ان يلحق بكل كلية حسب تخصصها- اما مصنع او مستشفي او ورش عمل او ارض زراعية, وهكذا, والمستثمر سيحرص علي تقديم خدمة تعليمية جيدة لانه يريد الاستفادة من تلك الطاقات لاحقا في مشاريعه, بما سيعود عليه في النهاية بعائد مادي, من ناحية اخري- والكلام لداليا- هناك قطاع سيندثر قريبا ما لم ننتبه وهو قطاع الحرفيين والايدي العاملة, والسبب ان الكل يريد دخول الجامعة وهناك نفور من فكرة التعليم الفني والصناعي والمهني, والحل ببساطة ان ننشئ كليات تعمل علي تخريج تلك الايدي العاملة, ولابد ان نراعي سيكولوجية المصريين, في اختيار المسميات ونجلب خبراء اجانب للتدريب ونقيم بروتوكولات تعاون وزمالة مع المعاهد الاجنبية المعروفة في العالم, كل ذلك سيشجع المصريين علي الحاق ابنائهم بتلك الكليات, وتتابع اتذكر عامل تركيب سيراميك كان يعمل معي, الحق ابنه بكلية طب الاسنان لحصوله علي مجموع عال, وتخرج وعمل بمرتب198 جنيها فما كان منه الا ان ترك الطب وعاد ليعمل مع ابيه ويبدا في تعلم الحرفة من جديد بعد ان اصبح في الثلاثينيات من عمره, ولو كان هناك فكر تعليمي مستنير لوفروا الكثير من الوقت.