برلماني : كلمة الرئيس باحتفالية عيد تحرير سيناء كشفت تضحيات الوطن لاستردادها    مساعد وزير التعليم: 8236 مشروعا تعليميا ب127 ألف فصل    برلماني: تنفيذ مخرجات الحوار دليل على جديته وقوته    سعر البيض الأحمر والدواجن اليوم في البورصة للمستهلك بعد الارتفاع المتتالي    برلماني: انقطاع الكهرباء يمتد لثلاث ساعات في القرى    بدء تطبيق المواعيد الصيفية لفتح وغلق المحال العامة في الدقهلية    تنفيذ 15 حالة إزالة في مدينة العريش    رئيس COP28: على جميع الدول تعزيز طموحاتها واتخاذ إجراءات فعالة لإعداد خطط العمل المناخي الوطنية    بالفيديو.. اللقطات الأولى لحادث وزير الأمن القومي الإسرائيلى    شولتس يدعو لزيادة دعم أوكرانيا في مجال الدفاع الجوي    مسؤول إسرائيلي: بلينكن يزور إسرائيل الأسبوع المقبل لبحث صفقة جديدة    أخبار الأهلي : فيفا يكشف عن أمر هام بشأن مازيمبي قبل مواجهة الأهلي بساعات    علاقة متوترة بين انريكي ومبابي.. ومستقبل غامض لمهاجم باريس سان جيرمان    النصر يتعادل مع اتحاد كلباء في الدوري الإماراتي    رياح مثيرة للأتربة تُعطل الحركة المرورية في سوهاج    كان بيستحمى بعد درس القمح.. مصرع شاب غرقًا في المنوفية    بالإنفوجراف والفيديو.. رصد أنشطة التضامن الاجتماعي في أسبوع    بعد صورتها المثيرة للجدل.. بدرية طلبة تنفي دعوتها للشاب حسن في زفاف ابنتها    دون سابق إنذار.. أنباء عن سقوط صاروخ داخل منزل بمستوطنة أفيفيم    شركة GSK تطرح لقاح شينجريكس للوقاية من الحزام الناري    الأوقاف تعلن أسماء القراء المشاركين في الختمة المرتلة بمسجد السيدة زينب    تعرف على أعلى خمسة عشر سلعة تصديراً خلال عام 2023    إصابة 6 أشخاص في انقلاب سرفيس على صحراوي قنا    تكثيف أعمال التطهير لشبكات الصرف الصحي بمحافظات القناة    بيراميدز يهزم الزمالك برباعية ويتوج بدوري الجمهورية    سيد رجب: شاركت كومبارس في أكثر من عمل    السينما الفلسطينية و«المسافة صفر»    "ذكرها صراحة أكثر من 30 مرة".. المفتي يتحدث عن تشريف مصر في القرآن (فيديو)    نائبة تطالب العالم بإنقاذ 1.5 مليون فلسطيني من مجزرة حال اجتياح رفح    وكيل وزارة الصحة بأسيوط يفاجئ المستشفيات متابعاً حالات المرضى    ميار شريف تضرب موعدًا مع المصنفة الرابعة عالميًا في بطولة مدريد للتنس    مجلس أمناء العربي للثقافة الرياضية يجتمع بالدوحة لمناقشة خطة 2025    محافظ المنوفية: 25 فاعلية ثقافية وفنية خلال أبريل لتنمية المواهب الإبداعية    الأمم المتحدة للحق في الصحة: ما يحدث بغزة مأساة غير مسبوقة    استمرار فعاليات البطولة العربية العسكرية للفروسية    أسبوع الآلام.. الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تحتفل بختام الصوم الكبير 2024    إقبال كثيف على انتخابات أطباء الأسنان في الشرقية (صور)    يحيى الفخراني: «لولا أشرف عبدالغفور ماكنتش هكمل في الفن» (فيديو)    مواعيد الصلاة في التوقيت الصيفي بالقاهرة والمحافظات.. وكيف يتم تغيير الساعة على الموبايل؟    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    «أرض الفيروز» تستقبل قافلة دعوية مشتركة من «الأزهر والأوقاف والإفتاء»    استقالة متحدثة أمريكية اعتراضًا على حرب إسرائيل في قطاع غزة    طائرة مسيرة إسرائيلية تستهدف سيارة في البقاع الغربي شرقي لبنان    بداية من الغد.. «حياة كريمة» تعلن عن أماكن تواجد القوافل الطبية في 7 محافظات جديدة    بعد حادث شبرا الخيمة.. كيف أصبح الدارك ويب السوق المفتوح لأبشع الجرائم؟    عاجل| مصدر أمني: استمرار الاتصالات مع الجانب الإسرائيلي للوصول لصيغة اتفاق هدنة في غزة    سكاي: سن محمد صلاح قد يكون عائقًا أمام انتقاله للدوري السعودي    وزير التعليم العالي يهنئ الفائزين في مُسابقة أفضل مقرر إلكتروني على منصة «Thinqi»    فعاليات وأنشطة ثقافية وفنية متنوعة بقصور الثقافة بشمال سيناء    25 مليون جنيه.. الداخلية توجه ضربة جديدة لتجار الدولار    «مسجل خطر» أطلق النار عليهما.. نقيب المحامين ينعى شهيدا المحاماة بأسيوط (تفاصيل)    قافلة جامعة المنيا الخدمية توقع الكشف الطبي على 680 حالة بالناصرية    خير يوم طلعت عليه الشمس.. 5 آداب وأحكام شرعية عن يوم الجمعة يجب أن تعرفها    نجاح مستشفى التأمين ببني سويف في تركيب مسمار تليسكوبى لطفل مصاب بالعظام الزجاجية    موعد اجتماع البنك المركزي المقبل.. 23 مايو    طرق بسيطة للاحتفال بيوم شم النسيم 2024.. «استمتعي مع أسرتك»    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 26 أبريل 2024.. «الحوت» يحصل علي مكافأة وأخبار جيدة ل«الجدي»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشاعر العراقى عبد الكريم كاصد
الشعر ابن المستقبل.. والقصيدة الجميلة ثورة
نشر في الأهرام اليومي يوم 16 - 08 - 2014

حمل "الحقائب" فى عام 1975 ولم ينس الوطن، ليحق له "النقرعلى أبواب الطفولة" بعدها بثلاث سنوات، ولكنه اكتشف أنه ينقرعلى أبواب المنافى ، بعدما صار الوطن قصيدة مسافرة ، فقرر أن يمنح "الشاهدة" "وردة البيكاجي".. ذلك الحى فى عدن والذى لم يكن بحال منفاه الأخير. فأدرك الشاعر العراقى الكبيرعبد الكريم كاصد أن الشعر"نزهة الآلام " التى يدمنها الشاعر ويتفاعل معها القراء فى الأوطان والمنافى .
لم يقف كاصد عند حدود الشعر فهو من المترجمين المهمين فى ترجمة الشعر فله إسهامات قيمة فى ترجمة شعراء كبار من أمثال سان جون بيرس و جاك بريفير.. كما اهتم بشكل خاص بقصائد اليونانى الكبير ريستوس.
وهو من الشعراء الذين يمتلكون رؤية نقدية ربما أفادته فيها دراسته المبكرة للفلسفة التى درسها فى جامعة دمشق فى ستينيات القرن الماضي. فى هذا الحوار لم نقدم اطلالة على مشواره الشعرى ولا سيرته النقدية فالحوار يأتى فى إطار ملف قصيدة المقاومة الذى طرحناه فى العدد السابق من صفحة الثقافة العربية ولنا مع كاصد وقفات أخرى حول الشعر العراقى والشعراء فى المنافى وتلك قصة اخرى
هل عادت قصيدة المقاومة إلى المشهد مع الربيع العربى والعدوان الصهيونى على غزة أم انها باتت عورة جمالية يهرب منها الشاعر وتفر منها القصائد الحقيقية ؟
سؤالك هذا يثير فى الحقيقة أسئلة عديدة: ماذا نعنى بقصيدة المقاومة؟ فإن وجدنا الإجابة - وهذا ما يتضمنه السؤال كما فهمته - متمثلةً فى أسماء شعرية كمحمود درويش مثلاً فى شعرنا العربيّ فهل اختفت بعده لتعود ثانية؟ وإن عادت ففى أيّ شعر تتجسّد هذه المقاومة؟ وإذا كانت القصيدة قصيدةً حقّاً فهل يمكن أن تكون عورةً جمالية لأنها قصيدة مقاومة مهما اختلفنا حول تعريف المقاومة. وكيف يهرب الشاعر من قصيدة تلاحقه؟
يقول بعض النقاد إن الأغراض الشعرية انتهت فى القصيدة الحديثة ..هل توافق على هذا الطرح ؟
اقتنيتُ اليوم، مصادفة، كتاباً بعنوان (عبء الرجل الأبيض) وهو أنطولوجيا للشعر البريطانى يحتوى على مدائح للإمبراطورية كتبها أهم شعراء الحداثة، فذكرنى بقصيدة ترجمتها من قبل لديريك والكوت فى مديح أوباما ذكرتني، هى بدورها، بقصيدة لفروست فى مديح أمريكا ألقاها فى حفلة تنصيب الرئيس الأمريكيّ جون كيندى بعنوان: (العطية السمحاء) وهذه أرجعتنى أيضاً إلى مسرحية شعرية لإليوت كتبها، بتكليف من الكنيسة هى مسرحية (الصخرة)، لتمثّل فى مناسبة ما، ولعلّ أكثر الأمثلة بروزاً هو الكتاب المكرس لمديح العائلة المالكة البريطانية بقلم واحدٍ من أهم شعراء الحداثة هو: تيد هيوز.
هل كراهيتنا لأوباما أو الموقف المختلف الآن، ربما، لديريك والكوت نفسه تجاه أوباما الحالي، يغيّر من جمال القصيدة التى قيلت بصدق وفنية عالية؟ أم أن ثمة عورةً جمالية ستقف حائلا دون تعاطفنا مع القصيدة الآن؟ وإذا كانت هذه العورة ملتصقة برئيس مقيت فكيف تكون العورة ملتصقة بمقاومة تمثّل شعباً أو جزءاً منه؟
حين تكون قصائد المقاومة قصائد حقّاً فلماذا تتعرض دون غيرها إلى هذه العورة الجمالية؟ ما نجده هو العكس فى بعض قصائد ريتسوس ونيرودا ومحمود درويش وناظم حكمت وأراغون ورامبو فى قصائده الهجائية والأخرى عن كومونة باريس هو تجدّدها الدائم واغتناؤها بما هو جديد عبر امتزاجها بفنون أخرى: موسيقى، غناء، مسرح ولعلّ أقرب مثال يحضرنى هو قصيدتا ريتسوس الرائعتان : أبيتافيوس وروميوسينى اللتان أصبحتا نشيدين لشعب، رغم كثافة عالميهما الشعريّ وعمقهما، الأولى مرثية لعامل قتيل والثانية مديح لمن حاربوا المحتلّ، الأولى لحنها ثيودوراكس بعد ما يقرب من ربع قرن ليمنحها بُعداً آخر.. بُعداً يحتوى على أعمق ما فى التراث الشعبى من أساليب أهملها الشعر والموسيقى معاً، والثانية لحنها ثيودوراكس أيضا بعد ما يقرب من عشرين عاما لتتوهج من جديد وتعاد طباعتها مرّاتٍ.
هل ثمة مواصفات لشاعر الثورة أو المقاومة وهل قصيدة المقاومة مرتبطة بحركات التحرر مثلا ؟
شعر المقاومة ليس مقصوراً على نمط معين من الشعراء فقد يكتبه شاعر شيوعيّ كريتسوس مثلما يكتبه شاعر قس كإرنستو كاردينال ويبقى المقياس الأساسى هو القصيدة ذاتها، أى أنّ الشعر لن يكون شعر مقاومة، أياً كانت هذه المقاومة، إن لم يكن شعراً أوّلا، فهل اتصفت القصائد التى تنعت الآن بشعر المقاومة بصفة الشعرأولا. وهل بالضرورة أن تُسمى القصيدة الحقيقية المكتوبة عن أطفال غزة مثلا بقصيدة مقاومة لأنها كُتبت عن هؤلاء الأطفال أم أن الموقف الإنسانيّ هو الذى أملاها على الشاعر بصفته إنساناً قبل كل شيء لا مقاوماً؟.
ولعل ما يستوقفنا فى شعر من نُعتوا بشعراء المقاومة: أراغون، نيرودا، إليوار، ناظم حكمت، ريتسوس، محمود درويش هو أنهم شعراء كبار حقّاً، لهم عالمهم الداخليّ الذى لا يقلّ ضجيجا عن العالم الخارجى الذى يعيشونه بكلّ عمق.
يكتب ريتسوس قصيدته فى المقاومة فى الوقت نفسه الذى يكتب فيه جنونه وجنون شقيقته فى قصيدته الشهيرة (أغنية شقيقتي) فى توغّلٍ عميقٍ فى الذات، وهنا تكمن عظمة الشعر الذى يلتقى فى مملكته الجنون والعقل، الذات والمجموع، الهواجس والإشراقات، المقاومة والخضوع، المقاومة لما يمقت والخضوع لما يحبّ. فى هذه المملكة تنتفى الحدود وتنأى التعريفات وتتآلف الأشكال فتعود الاشكال القديمة وهى أشدّ سطوعاً مما هو مستجدٌّ من أشكال. هذا ما نلمسه لدى إليوت ولوركا وريتسوس وعشرات غيرهم ممّن استخدموا أكثر الأشكال شعبية وبعداً عن الاستخدام الشائع فى الشعر، فلاغرابة أنّ شاعر المقاومة أو الثورة – سمّه ما شئت - إرنستو كاردينال كان مثاله الشعريّ هو عزرا باوند المعروف بعلاقته بالفاشية الإيطالية ولكن ثمة شيء آخر وراء دوافع عزرا باوند تجاه هذه العلاقة هو كراهيته العميقة للرأسمالية وأمريكا بالذات.
نعود للسؤال حول الاغراض الشعرية ؟
ولعلنا لن نأتى بجديد إن قلنا إنّ الأغراض ذاتها قد تتخذ أشكالاً أخرى غير مألوفة من قبل، فالمديح الشائع يتخذ شكلاً آخر ليصبح مديحاً من نوع آخر.. مديحاً لظلٍّ عالٍ كما عند محمود درويش، بل إننا، من النادر، ألاّ نجد هذه الأغراض فى شعر أشهر شعراء روّاد الحداثة فى شعرنا العربيّ، ولعل الرثاء هو الغرض الذى سيبقى ما بقى الشعر فى كلّ لغات العالم.
إنّ ما حدث فى شعرنا العربيّ هو العكس تماماً: احتضار الشعر الذى تمت تسميته بالشعر الميتافيزيقى الذى طبّلت له مجلة الآداب فى الستينيات من القرن الماضى بدعاوى كاذبة لنقاد مولعين بالتسميات لا لما هو مفارقٌ للواقع وحده وإنما للتسميات أيضاً.
ماهى المقاومة الحقيقية فى رأيك وهل هى بحاجة إلى قصائد تدعمها؟ وكيف يدعم الشاعر المقاومة؟
ليس من الضرورى أن نتفق على تعريف المقاومة، فقد يخوضها رجل الدين كالشاعرإرنستو كاردينال وقد يخوضها الشاعر الشيوعيّ كريتسوس، مثلما أشرت فى إجابتى السابقة، ولكن من الضرورى أن تكون القصيدة شعراً حقّا، وقد نختلف حول مفهوم الشعر ولكننا، لا أعتقد أننا سنختلف كثيراً حول الإحساس على الأقل بما هو شعرٌ جيد. والدلالة على ذلك أنّ ثمة ما يشبه الإجماع لدى القراء والنقاد معاً على قيمة قصائد كثيرة فى شعرنا العربيّ والعالمي: الأرض الخراب لإليوت مثلاُ، إنشودة المطر، وبويب لبدر شاكر السياب، الجدارية لمحمود درويش، إلخ, ولكن من الصعب الاتفاق حول الشعر السيئ وقد ناقش ذلك بكثير من الطرافة الناقد الإنجليزى آي. أ. ريتشاردز أو ذلك الشعر الذى يقيم فى منطقة الأعراف ليأتى المهربون من النقاد ليهربوه، خلسةً، إلى الفردوس.
بلا شك، المقاومة لا تنتظر الشعر لتكون مقاومة، مثلما لا ينتظر الشعر المقاومة لكى يكون شعراً، لأن الشعر يتعامل مع الحياة باتساعها وعمقها اللذين لا حدود لهما. ولعلّ الشعر لم يزل قاصراً فى اكتشاف مجاهيل هذا الاتساع والعمق، ولكن لا بدّ للشعر والمقاومة ولاسيما تلك التى يخوضها شعب بكل طبقاته أو فئاته أو أغلبها، من شعر، وهذا دليل على قرب الشعر مما هو لصيق بالإنسان من مشاعر غائرة خفية، من دون تحديد لهذا الإنسان أو لهذه المشاعر
هل يمكن ان تنتج الفاشيات الوطنية شعرا جماليا او ثوريا ؟
لا أستطيع أن أتخيل أنّ الحركات الفاشية أو الدينية المتطرفة يمكن أن تنتج شاعرها أو روائيها، فإنْ حدث ما لم نتوقعه فهذا لن يكون إلاّ استثناء نادراً. (أنا أتحدث هنا عن واقعنا العربيّ لئلاّ يقفز إلى ذهن البعض مثال عزرا باوند الاستثنائيّ). أجل، ثمة حركات سياسية فاشية أو دينية متطرفة لها امتدادها الشعبيّ ولكنها لن تلتقى بالشعر أو يلتقى بها الشعر، رغم جذورها بسبب أفقها المغلق وثقافتها المغلقة التى تنتسب إلى الماضي، وكل ما هو متخلّف، وهذا على النقيض من الشعر الذى ينفتح، بطبيعته، لا على ما هو حاضرٌ حسب، وإنما على المستقبل أيضاً، من خلال رصده تفصيلات الواقع، وما يتجاوزها إلى ما هو أبعد من الحاضر عبر نبوءاته، دون مفارقةٍ لهذا الواقع. لذا لم نجد شاعراً أو قاصاً مبدعاً متميزاً أنجبته هذه الحركات التى تعانى هي، بدورها، من احتضارٍ وشيك، رغم انتصاراتها الجزئية العابرة.
ورغم تجاوزنا لمفهوم المقاومة المحدد فإنّ للمقاومة أطيافها التى لن تكون بالضرورة مرتبطة بالثورة مباشرة، وأشكالها العديدة خارج شكلها المعروف الذى تجسّدَ فى شعر الشعراء الذين أتينا على ذكرهم.
كيف ؟
سأورد مثلا من تاريخنا العراقيّ القريب: كنّا فى البصرة، فى بداية السبعينيّات، عند صعود النظام البعثيّ آنذاك، مجموعة من الشعراء أبرزهم : كاظم الحجاج، مهدى محمد علي، مصطفى عبدالله وكان شعرهم معنيّاً بمراقبة الواقع اليوميّ وتفصيلاته التى تبدو لبعض القراء الذين اعتادوا على أنماط معينة من الشعر أنها تفصيلات ليست من صُلب الشعر، ولكن هذه القصائد المعنية بهذا الواقع كانت مقلقة للسلطة التى عبرت عن استيائها عبر مقالات كتابها المأجورون لأنها خارج الضجيج الإعلامى المشغول بإنجازات السلطة الوهمية. أتذكر قصيدة صغيرة للشاعر الراحل مصطفى عبدالله تتحدّث عن أطفال محلة شعبية، فى البصرة، تُعرف باسم (محلة الحيانية) كانت مبعث استياء وقلقٍ كبيرين رغم أنها لا تبدو أنها تحمل أيّ سمة من سمات المقاومة:
لماذا ينزل أولاد الحيّانيّة قبل وقوف الباص.. ؟
ويقتسمون مع الحرّ، سريعاً، أبواب البارات
وأسواق الخضرة والساحات.
وحين تنام الشمس على الطرقات
ينتصبون رفوفاً للبارد والحلويّات...؟
لا أدرى
كيف ستحلو النزهة ،
بين الأشجار وأولاد الحيّانيّة ..؟
أطفال يتسلّقون الباص، ثمّ ينزلون قبل وقوفه، تجنّباً لدفع الأجرة، ثمّ سرعان ما يفترشون الأرض أمام أبواب البارات وأسواق الخضرة والساحات حتّى حلول المساء الذى تشير إليه استعارة مصطفى الجميلة "وحين تنام الشمس على الطرقات"، غير أنّ القصيدة تفارق مألوفها فجأةً بهذا البيت النادر "ينتصبون رفوفاً للبارد والحلويّات"، حيث تحلّ المخيّلة محلّ الواقع المألوف، لتمهّد فى الاخير لهذه الحركة المباغتة التى تنطوى على سؤال جارح:
" لا أدرى كيف ستحلو النزهة بين الأشجار، وأولاد الحيّانيّة..؟"
هذه القصيدة البسيطة التى قد لا تستوقف الكثير من نقّاد اليوم، المشغولين بنظريّات الشعر أكثر من الشعر نفسه، أثارت حفيظة البعثيّين آنذاك ، ودفعتهم إلى الجهر بعدائهم لمثل هذا الشعر الذى اعتبروه إنكاراً للتحوّلات الثوريّة التى تجرى فى الواقع، على حدّ زعمهم. ولعلّ ما يبدو مألوفاً فى هذه القصيدة هو فى أشدّ حالاته اغتراباً، فى مجتمع شهد استرخاء ظاهرياً كاذباً، حيث الناس يحتفلون بنزهاتهم اليوميّة المسترخية، وسط أطفال مرهقين استحالوا رفوفاً من التعب. إنّها اللامبالاة التى شهدها مجتمعنا والتى أنذرت بأسوأ العواقب فيما بعد. لقد وصف الشاعر سعدى يوسف هذه القصيدة عند نشرها، ب" أنّها شوكة فى العينين "


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.