المسيحية تمثل أول ديانة سماوية دخلت إلى شمال و أواسط السودان، ويرجع ذلك إلى حوالى منتصف القرن السادس الميلادى عندما قامت ثلاث ممالك فى شمال و أواسط السودان اتخذت من المسيحية ديانة رسمية لها، وهى ممالك «نوباتيا « و « المقرة « و « علوة « ، وقد كانت الكنيسة الأرثوذكسية بالسودان تابعة للبطريركية الارثوذكسية فى الاسكندرية، و كانت تستخدم اللغة القبطية واليونانية ، فضلا عن اللغة المروية . غير انه وفى وقت مبكر أيضا ومع انتشار المسيحية فى السودان ، كان الفتح الاسلامى يطرق الأبواب بقيادة عبد الله بن أبى سرح فى أواسط القرن السابع الميلادى بدءا من عام 641 م ، وانتهى الأمر بعقد الصلح بين الطرفين فيما عرف باتفاقية البقط ، إلى أن دخل المسلمون بلاد النوبة فى عهد الملك مرقوبوس ملك النوبة الأرثوذكسى ، وصاهروا ملوكهم فكانت تلك بدايات التمازج بين النوبة و العرب وانتشار الإسلام ، إلى أن انهارت آخر دولة مسيحية سنة 1504 مع تأسيس مملكة سنار العربية الإسلامية . وقد مرت المسيحية ومن ثم المسيحيون فى السودان بأطوار عدة وتقلبات مختلفة منذ التاريخ القديم ، مرورا بدخول محمد على باشا إلى السودان ، ثم الثورة المهدية فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر ، وصولا إلى بداية الحكم الثنائى البريطانى المصرى بدءا من عام 1899 . وقد تركت السياسات البريطانية أثناء فترة الحكم الثنائى أثرا كبيرا على الجغرافيا الدينية والسياسية للسودان خصوصا مع إصدار قانون المناطق المغلقة عام 1922، والذى منح الحاكم العام للسودان ( بريطانى الجنسية ) حق إعلان أى منطقة فى السودان منطقة مغلقة لا يجوز للسودانيين وغير السودانيين من غير المقيمين فيها الدخول إليها إلا بإذن خاص يحصل عليه من السلطات، وتم منع استخدام اللغة العربية فى التعليم فى الجنوب . كما تم توزيع مناطق جنوب السودان بين الإرساليات المسيحية التبشيرية ، باعتبار أن إلحاق الجنوبيين بالمسيحية هو الطريق الأنسب لإلحاقهم بركب الحضارة ، وهو الأمر الذى كان يحمل فى طياته إيجاد هوية منفصلة للجنوب ، تحقيقا لمصالح الإمبراطورية البريطانية، ولعل هذا هو ما يفسر تعدد الكنائس المسيحية فى السودان حتى اليوم رغم انفصال الجنوب كدولة مستقلة فى عام 2011 . ومن المعروف أن من بين أسباب تفاقم الحرب فى جنوب السودان وتصاعدها فى العقود الثلاثة الأخيرة التى سبقت انفصال الجنوب فى دولة مستقلة ، حيث كان يتم تصوير هذه الحرب فى احد أبعادها باعتبارها حربا إسلامية ضد المسيحيين وأصحاب الديانات التقليدية فى الجنوب، وكان حشد الدعم والتعبئة لمساندة الطرف الجنوبى فى الحرب يتم استنادا إلى أنها حرب دينية عنصرية من العرب المسلمين ضد الآخرين . ولكن من الضرورى أن نشير فى هذا السياق إلى أن مسئولية نظام الإنقاذ السودانى الحاكم حتى الآن ، والذى جاء إلى الحكم عبر الانقلاب الذى دبرته الجبهة القومية الإسلامية عام 1989 وتعامل مع الحرب فى الجنوب باعتبارها حربا دينية ، وأعلن الجهاد، وأقام أعراس الشهداء لمن يقتلون فى الجنوب لزفافهم إلى الحور العين فى الجنة ، وجعل من تطبيق الشريعة الإسلامية قضية محورية ، تم استخدامها من قبل الجنوبيين والقوى الغربية ببراعة للتحول نحو فصل جنوب السودان . فى الوقت الحالى يتوزع المسيحيون فى السودان بين عدد كبير من الكنائس ، تأتى على رأسها الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، والكنيسة الكاثوليكية ( التى فقدت عددا كبيرا من أتباعها مع رحيل العدد الأكبر من الجنوبيين بعد فقدانهم صفتهم كمواطنين فى شمال السودان، وهناك تواجد واضح أيضا للكنيسة الإنجيلية والكنيسة الأسقفية، وكنائس أخرى مثل الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية ، و كنسية الأرمن الأرثوذكسية ، والكنيستين الإثيوبية والإريترية الأرثوذكسيتين . وفيما يتعلق بأعداد المسيحيين فى السودان ليست هناك تقديرات دقيقة يمكن الاعتماد عليها ، حيث تعتمد الأعداد التى يذكرها هذا الطرف أو ذاك على تقديرات جزافية ، وتتراوح هذه التقديرات ما بين 4 ملايين مواطن حسب بعض مصادر مسلمى السودان ، فى حين يقدرهم القمص فيلوثاوث فرج ، وهو احد أهم أقباط السودان المنخرطين فى العمل العام بعدد قدره خمسة ملايين، منهم ثلاثة ملايين قبطى . غير أن هذه الإحصائيات، تبدو غير دقيقة، إذ لم يجر مسح دقيق لتقدير الأعداد الحقيقية لمعتنقى الديانات والمعتقدات فى السودان. كما أن هذه الإحصاءات ذاتها تبقى عرضة للتغيير فى حال جرى إحصاء جديد، خصوصا بعد انفصال الجنوب الذى توجد به نسبة يعتد بها من مسيحيى السودان ، خاصة ان أعداد مسيحيى الجنوب كانت أيضا محل خلاف بين الطرفين الشمالى والجنوبى طوال فترة الحرب الأهلية . ويمكن القول بشكل عام إن هناك قدرا كبيرا من التعايش بين مسلمى ومسيحيى السودان فى إطار التعدد والتنوع المميز الذى حفل به السودان على أصعدة عدة ، لكن أعدادا متزايدة من الأقباط والكاثوليك والبروتستانت والذين لم يكن لديهم الشعور بقدر حاد من التمييز الديني، بدأوا فى الشكوى منذ مطلع التسعينيات فى القرن الماضى حيث تعالت احتجاجاتهم على ما اعتبروه «استهدافا» من الحكومة الإسلامية فى الخرطوم. ثم تزايدت هذه الشكوى والاحتجاجات بشكل واسع عقب انفصال الجنوب وإعلان الرئيس البشير فى خطاب ألقاه فى مدينة القضارف بشرق السودان ، أن عهد « الدغمسة قد ولى» بعد انفصال الجنوب ، وان السودان سيبدأ منذ الآن تطبيق الشريعة الإسلامية بنسبة مائة فى المائة. ويرى المطران اندود ادم النيل مطران الكنيسة الأسقفية السودانية أن هذا كان بمثابة إشعار لكل الجماعات الإسلامية المتطرفة التى شرعت على الفور فى تنفيذ مخططاتها، حيث قام المتطرفون بحرق كنيسة كاد وقلي، وبعدها امتد الضرر إلى حرق مدرسة الجريف غرب اللاهوتية بالخرطوم وهدم الكنيسة فى الحاج يوسف ثم إغلاق مدارس كمبوني. وتحدث آخرون عن اعتداءات أخرى شملت كنائس أخرى . ويتهم بعض قادة الكنائس السودانية الحكومة السودانية بأنها تعمل بمعايير مزدوجة، حيث تتلاعب بموضوع العقيدة ، ففى بعض المنابر تدعى كفالتها لحرية الاعتقاد وان مبدأها الرئيسى هو إقامة دولة المواطنة وهى الحكومة ذاتها التى يتحدث مسئولوها عن إسلامية الدولة السودانية ويشجعون الجماعات المتشددة بسبب الرغبة فى الحصول على الدعم والشرعية السياسية من هذه الجماعات، رغم أن هناك مادة فى الدستور السودانى تنص على حرية الاعتقاد وكفالة الأديان الأخرى . وعلى هذه الخلفية، جاءت قضية الطبيبة مريم يحيى التى حكم عليها بالإعدام بتهمة الردة فى مايو 2014 ، لكى تثير ضجة كبرى . حيث ولدت مريم من أب سودانى مسلم وأم مسيحية إثيوبية ، وتقول إنها نشأت على المسيحية ولم تعرف دينا غيرها بعد أن فقدت والدها وهى طفلة، ثم تزوجت من مسيحى امريكى من أصل سودانى ، فتم اتهامها بالزنا ثم تم اتهامها بالردة وإصدار الحكم ، باعتبار أنها مسلمة لأنها ولدت من أب مسلم . وترددت أصداء هذه القضية على نطاق واسع داخل وخارج السودان ، حتى صرح وزير الخارجية السودانى بأن هذه القضية قد ألحقت ضررا كبيرا بالسودان ، وانتهى الأمر بإلغاء حكم الإعدام فى الاستئناف، حيث خرجت مريم يحى لكى تلجأ إلى السفارة الأمريكية التى انتقلت منها إلى روما ، حيث استقبلها بابا الفاتيكان، وتحولت قضيتها إلى حدث كبير تتناقله وسائل الإعلام العالمية.