بالرغم من وجود توافق كامل علي ضرورة إقامة نظام ديمقراطي يمكن المصريين من اختيار حكامهم وممثليهم ومساءلتهم ومحاسبتهم وتغييرهم, لم يحدث اتفاق علي كيفية بناء هذا النظام في أي وقت علي مدي نحو عام كامل منذ أن نجحت ثورة25 يناير في إسقاط رأس النظام الذي اندلعت ضده. كان غياب هذا الاتفاق أحد أهم العوامل التي أربكت المسار الانتقالي علي نحو أدي إلي اضطراب عملية بناء النظام الديمقراطي وازدياد التوتر الذي بلغ ذروة جديدة منذ مذبحة ستاد بور سعيد قبل أسبوعين. ولذلك دخلت المرحلة الانتقالية, قبل أربعة أشهر ونصف علي موعد انتهائها, في وضع بالغ الخطر يفرض البحث عن كيفية الخروج منه بأقل الخسائر. فليس سهلا الخروج من هذه المرحلة بما يحقق أهداف ثورة 25 يناير في ظل غياب الثقة المتبادلة وفي أجواء سياسية ومجتمعية يسودها الانقسام علي مستويات عدة, وليس فقط علي المستوي السياسي. وليس الانقسام, الذي وصل إلي حد الاستقطاب, بين الإسلاميين وأطراف أخري تم اختزالها تحت لافتة ليبراليين, إلا أحد هذه المستويات, وقد لا يكون هو أهمها بخلاف الصورة المصنوعة إعلاميا. فهناك انقسام بين القيادة العسكرية التي تدير شؤون البلاد منذ 11 فبراير 2011 وكثير من القوي السياسية والاجتماعية, ولكن بدرجات مختلفة ومن زوايا متباينة. وبالرغم من أن هذا ليس صراعا مدنيا عسكريا بالمعني الدقيق, فهو ينطوي علي هذا المعني جزئيا. ولم يكن الوزن المميز لقضية تسليم السلطة في الذكري الأولي لثورة25 يناير تعبيرا عن المدي الذي بلغه هذا الانقسام فقط, بل مؤشرا في الوقت نفسه علي أن تلك القضية قد تصبح هي العقدة الأكبر أمام بناء نظام ديمقراطي إذا لم يتيسر توافق عام علي وضع المؤسسة العسكرية في هذا النظام وموقعها فيه. وهناك, أيضا, الانقسام في أوساط الرأي العام المصري نفسه بين من يريدون استمرار الثورة في الشارع إلي أن تحقق أهدافها, ومن يتطلعون إلي استقرار يظنون أن المظاهرات والاعتصامات هي الحائل الوحيد دونه. فبين مزيد من الثورة وكفاية ثورة ينقسم المصريون إلي فريقين تزداد المسافة بينهما بعدا يوما بعد يوم. ويمثل فريق كفاية ثورة, وهو أوسع نطاقا بكثير من المجموعات التي تعبر عن هذا الموقف بأشكال مختلفة أكثرها هزلي, رصيدا احتياطيا مضادا للبناء الديمقراطي. فالخوف من شبح الفوضي الذي يسهل تحويله إلي فزاعة, وخصوصا في حالة فراغ أمني لم يملأ بعد عام كامل علي انكسار جهاز الشرطة في مواجهة الثورة, يخلق استعدادا لقبول حكم غير ديمقراطي يعيد الأمن والنظام والانضباط ويبشر بحل المشكلات وتحسين الأوضاع. وعلي المستوي السياسي, تبدو حالة الانقسام أكثر تعقيدا علي نحو يصعب اختزالها في إسلاميين في مواجهة ليبراليين. فالإسلاميون منقسمون. وكانت المعركة الأشد وطأة في الانتخابات البرلمانية بين فريقين منهم بالأساس. كما أن الآخرين, الذين يسميهم خصوم الإسلاميين قوي مدنية, ليسوا أقل انقساما. وفي هذه الأجواء, بدأت المرحلة الانتقالية مرتبكة. فعندما تحول الحلم إلي حقيقة يوم 11 فبراير 2011 لم يكن هناك أي تصور لليوم التالي لانتهاء حكم حسني مبارك. ولذلك بدا تسليم السلطة إلي القيادة العسكرية ممثلة في المجلس الأعلي للقوات المسلحة حلا مؤقتا مريحا للجميع, قبل أن تظهر مشكلات تباعا. ولم يكن افتقاد مختلف أطراف الساحة السياسية وقوي الثورة أي تصور للانتقال إلي نظام ديمقراطي هو المصدر الوحيد لهذه المشكلات, بل الخلاف الذي ظهر مبكرا جدا حول خطوات هذا الانتقال أيضا. كما لم يكن الخلاف بين الدعوة إلي الدستور أولا والمطالبة ب الانتخابات أولا إلا رأس جبل الجليد في وضع تسوده الشكوك وتندر فيه الثقة. وبينما كانت فكرة الانتخابات أولا واضحة بشكل ما, دون أن يعني ذلك أنها الأفضل بالضرورة, فقد بدت الدعوة إلي الدستور أولا ملتبسة لأن الإجابة عن السؤال عمن يضع مشروع هذا الدستور كانت غير واضحة بما يكفي. فقد تباينت خطابات أصحابها. تحدث بعضهم عن جمعية تأسيسية معينة أو غير منتخبة تمثل مختلف فئات المجتمع علي نسق تجربتي دستور 1923 ومشروع دستور 1954 بدون تحديد كيف يمكن اختيار أعضائها من الناحية الإجرائية ولا كيف يتيسر بناء توافق عليهم في ساحة لا يثق فيها أحد في أحد. وتحدث بعض آخر عن اختيار عدد من الفقهاء الدستوريين للقيام بهذه المهمة بدون تحديد كيف يمكن تحقيق ذلك عمليا. ووجد بعض ثالث في التراث الدستوري المصري ضالته, التي بحث عنها بعض رابع في دساتير الدول الديمقراطية التي يمكن الاعتماد عليها. ورأي بعض خامس أن تكون الجمعية التأسيسية منتخبة بدون إجابة عن السؤال الذي شغل الساحة السياسية بعد ذلك وهو: كيف يمكن حل المشكلة التي يمكن أن تنشأ إذا فاز تيار واحد بالأغلبية في هذه الجمعية؟ وفي ثنايا هذا الصراع الذي بدأ مبكرا علي خطوات المسار الانتقالي, مضي الوقت وطال أمد هذا المسار الذي كانت القيادة العسكرية قد التزمت بالانتهاء منه خلال ستة أشهر. وفي أجواء يسودها الانقسام متعدد المستويات, وغياب الثقة, ونتيجة سوء إدارة المسار الانتقالي بملفاته كلها بما فيها تلك الأكثر حساسية مثل حقوق الشهداء والمصابين, أخذ التوتر يتصاعد والاحتقان يشتد بالرغم من إجراء انتخابات برلمانية حرة وشفافة بدرجة لا سابقة لها. وحلت الذكري الأولي لثورة 25 يناير في ظل خلافات حادة وفي غياب التوافق, وفي أجواء تزداد احتقانا, يصبح ضمان الانتهاء من المرحلة الانتقالية في موعدها المعلن وهو 30 يونيو 2012 ضرورة قصوي. المزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد