لم يكن غريباً أن كل محاولات الثورة فى المحروسة انطلقت شرارتها من القاهرة أولاً ثم تداعى لها سائر الجسد بالحمى والسهر.. الكلام عن الجغرافيا والقاهرة يبدأ ولا ينتهى بالعالم المصرى الدكتور جمال حمدان راهب جغرافية مصر فقد ظل ذراع الوادى ومروحة الدلتا يخلقان مركزية حادة عند التقائهما بالقاهرة. فمنطقة القاهرة هى خاصرة الوادى كما هى خاصرة الصحراء حيث كل الطرق تؤدى إلى القاهرة.، فإذا كان النيل يصب فى مصر فإن مصر كلها تصب فى القاهرة .. القاهرة عنق الزجاجة.. عنق مصر.. من الناحية الهندسية مركز الثقل الطبيعى ومن الناحية الميكانيكية.. نقطة الارتكاز التى تستقطب حولها ذراعى القوة والمقاومة من شمال وجنوب.. ومن الناحية الحيوية نقطة التبلور.. ومن الناحية الوظيفية ضابط الإيقاع بين كفتى مصر، إنها تبدو حقا كما قال ريكلى – كما لو كانت موقعاً من اختيار الآلهة.. وعلى هذا .. فإن توزيع السكان فى مصر يحصل من القاهرة ثمة طبيعية وتتويجاً لزحف سكانى صاعد نظيم.. وعليه فإن قلب القاهرة الذى سكنته الأهرام منذ بداية القرن الماضى هو الزر الماسى الذى يلخص الوطن ويمسك قلب الدلتا ورأس الصعيد يبدأ القلب الماسى للقاهرة من أقصى شمال الدلتا وأقصى جنوب الصعيد على السواء.. فبروفيل الكثافة فى الوادى برمته كما رأينا أشبه شئ بالهرم المتدرج سقفه منطقة القاهرة .. فى دائرة نصف قطرها 75 كم ومركزها القاهرة تضم وحدها 38% من سكان القطر عام 1976 فى ثمن مساحة مصر فقط.. والكلام لجمال حمدان : هاهنا النواة النووية للدولة.. ولهذا كان طبيعياً أن توصف القاهرة "زر ماسى يمسك مروحة الدلتا ورأس الصعيد" أو هى ربما كانت القاهرة أكثر مناطق العالم منطقاً فى موقعها.. وقد ظلت عبر التاريخ منطقة رأس الدلتا سواء منذ منف أو هليوبوليس أو أون ثم الفسطاط أو القطائع أو القاهرة هى العاصمة الطبيعية لمصر خلال معظم تاريخها الألفى، أو بالأصح تاريخها الوطنى والتى كانت وحدها تعكس التوجيه المصرى المحلى الصميم.. حيث كانت عواصم الشمال الشرقى القديمة تعكس توجها آسيوياً إلى حد ما، وعواصم الشمال الغربى توجهاً أوروبياً الى حد آخر بينما كانت عواصمالجنوب الاقصى توحى بتوجيه افريقى بقدر أو آخر. وكما يعتبر جمال حمدان أن ارتداد العاصمة من موقع ساحلى "الاسكندرية" إلى موقع داخلى "الفسطاط" خطوة تعبر عن التوجه الوطنى وسابقة مبكرة جداً عرفتها كل الدول الوطنية المتحررة حديثاً ابتداء من الهند إلى روسيا إلى تركيا.. فما هى علاقة الأهرام بهذه الحقائق؟ الإجابة مبنية على رؤية العالم جمال حمدان :فإن انتقال إقامة صحيفة الأهرام من الإسكندرية إلى القاهرة ،الذى تم عام 1901كان حاسماً أيضاً فى تأرجحه ما بين المصالح الغربية الفرنسية أو الدولة البريطانية عقب الاحتلال وقبلهما الدولة العثمانية صاحبة السيادة والباب العالى فى انحيازه الكامل إلى المصلحة الوطنية والثورة المصرية فى مواجهة صحافة التبعية للأجنبى،انسياقاً وراء حركة رأس المال، والتى سبقها محاولات للتوفيق بين الاعتماد على الدولة العثمانية وبين قوة المحتل الذى استسلم فى حمايته الخديو. وعندما اختار «الأهرام» موقعها فى القاهرة الواسعة لم يسكن غربا على هضبة الأهرامات أو الجيزة حيث بقايا العصر الفرعونى أويسكن شرقا على سفوح المقطم الذى تعيش عند أقدامه الأحياء الشرقية القديمة التى تضم تاريخاً إسلامياً مكدساً، حيث عاش مقر الحاكم منذ الفتح العربى لصيقا بسفوح المقطم ومن حوله أحياء الأعوان والمقربين وأهل الحكم ثم كبار التجار والحرفيين والعامة . الطريف أن المقطم ضم مقر جماعة الإخوان المسلمين التى أنشأها حسن البنا عام 1928 وظلت أكثر من 80 عاما تطلب الحكم حتى انفردت به، قبل أن تسقط من عليائه بعد أن رفض الشعب المصرى نهجها وتشددها. اختارت الأهرام إذن أن تسكن فى القاع المنخفض بين القوسين التاريخيين المرتفعين الفرعونى غربا والإسلامى شرقا وهى خير نقطة تختزل تاريخ مصر جميعاً.. ومصهر حقيقى فعال لعناصر الشعب وإعراق الأمة. وقد اختارت الأهرام مقامها بالقاهرة على هامش منطقة القلب الحضارى الوطنى الأكثر هدوءا واتساعاً لأغراضها ، سواء عند إقامتها الأولى فى شارع مظلوم بالقرب من شارع طلعت حرب وميدان التحرير ، أو عند انتقالها الثانى على شارع الجلاء بعيدا عن القلب القديم التقليدى الآمن قرب الموسكى والأزهر والغورية ، وهو ما يعكس التمدد الحضارى من ميدان العتبة حيث القاهرة الخديوية إلى ميدان الاسماعيلية الذى صار اسمه ميدان التحرير بعد تحريره من معسكرات الجيش الانجليزى بعد ثورة يوليو 1952.