الحوار القرآنى مع الملائكة لم يكن حوارا معهم بوصفهم معارضين للمشيئة الإلهية, وإنما بوصفهم مستفسرين عن الحكمة فى استخلاف البشر المفسدين بطبيعتهم, لكنه من جانب آخر هو درس للبشر ليتعلموا كيفية التعامل مع السلطة الأرضية فى مستوياتها كافة, ذلك أن الله هو الذى اقدر الملائكة على سؤالهم: «أتجعل فيها من يفسد فيها», ليكون الرد عليهم درسا للبشرفى حرية الرأى والمشورة, وما أن تم إثبات أحقية آدم فى الخلافة, حتى جاء قوله تعالى :«وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين « (البقرة 34), وواضح أن أمر السجود كان سجود تكريم لا سجود عبادة, فى مثل إخباره تعالى عن سجود أهل يوسف له : «ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا» (يوسف 100), لكن هذا الأمر يثير تساؤلا: هل كان إبليس من الملائكة وعصى أمر الله؟ أم كان من الجن استنادا إلى قوله تعالى: «وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه» (الكهف 50), وعلى هذا أو ذاك فإن الحوار القرآنى قد تحول إلى نوع من الجدل من جانب إبليس, وقد بدأ جدله من خروجه على الأمر الإلهى بالسجود لآدم: «قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين» (الأعراف 12), والجدل واضح فى رد إبليس, فمن أين له أن النار أفضل من الطين ؟ ولو فاضلنا بينهما, ربما كان الطين هو الأفضل, لأن النار لها فوائدها العظيمة, لكن لها طبيعة تدميرية هائلة ليست للطين. بل إن رد إبليس يتنافى مع رأى بعض المتصوفة الذين أرادوا أن يلتمسوا العذر لإبليس, بقولهم إنه رفض أن يسجد لغير الله, إذ الواضح أنه رفض السجود لأنه رأى نفسه أفضل من آدم, وهو ما أكده الحوار القرآنى فى الآية السابقة وفى قوله تعالى: «وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا» (الإسراء 61), وفى مقابل هذا العصيان من إبليس جاء الرد الإلهى: «قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين» (الأعراف 13). ويصعد إبليس من (الجدل) إلى (التمرد والعناد): «قال أنظرنى إلى يوم يبعثون0 قال إنك من المنظرين 0 فال فبما أغويتنى لأقعدن لهم صراطك المستقيم 0 ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين « (الأعراف 14 17), ثم يصعد إبليس من العناد إلى التحدى: «قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين 0 إلا عبادك منهم المخلصين» (ص 82 , 83), ويكون الرد الإلهى قاطعا: «قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين: (الأعراف 18), أى أن خروج إبليس ملازم للّعن والطرد, وهو ما يعنى أيضا أن إبليس كان من سكان الجنة, أو من سكان الملأ الأعلى. وفى تصورنا أن هذا الحوار القرآنى كان بين سلطتين: السلطة الإلهية العليا , والسلطة الإبليسية السفلى, وقد قدم درسا آخر للبشر الذين يسكنون الأرض, درسا فى العلاقة بين السلطات الأرضية والتشبيه مع الفارق قطعا , فقد تجرأ إبليس على معارضة السلطة الإلهية المطلقة (التى إذا أرادت شيئا فإنما تقول له كن فيكون), والمفهوم ضمنا أن الله سبحانه هو الذى سمح لإبليس بهذا الموقف العصيانى الذى بلغ مرحلة التمرد ثم التحدى , ومن ثم كان الجزاء بقدر الخطيئة: «قال فالحق والحق أقول0 لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين» (ص 84 , 85 ), وإذا كان ذلك كذلك فنحن البشر لنا الحق فى مواجهة السلطة الدنيوية فى مستوياتها كافة بالمعارضة الجزئية والكلية والحوار المدعوم بالمنطق والبرهان والقانون للوصول إلى الحقيقة والحق, وهو الدرس نفسه الذى تابعناه فى الحوار مع الملائكة . لمزيد من مقالات د.محمد عبدالمطلب