تجربة فريدة تلك التي أقدم عليها ثلاثة من النحاتين المصريين، وعرضوا نتاج أعمالهم في قاعة مشربية بوسط البلد منذ شهر يونيو الماضي. هم النحاتون أحمد قرعلي وحسن كامل وهشام عبدالله الذين قرروا، على أعتاب عقدهم الرابع، أن يؤسسوا جماعة فنية في زمن شحت فيه الجماعات والمجموعات التي تتوحد حول هدف واحد. من الناحية الفنية، يقف كل منهم على طرف نقيض الآخر، لكن يجمع ثلاثتهم هذا الهوى–أو الهوس الفني- بفن العمارة، أم الفنون، ألم تكن العمارة في أصلها نحتا وتجهيزا في الفراغ تم توظيفه لخدمة الناس ؟ أطلقت المجموعة على معرضها الحالي عنوان دال «تركيبات نحتية برؤية معمارية»، إذ يتجلى شاغلها الرئيسي في كيفية الاستفادة من الموروث الحضاري المصري في تقديم رؤية عصرية تستوعب التطور الزمني وحاجات الانسان اليوم. سافر كل منهم للخارج، قضى أحمد القرعلي منحة دراسية بأكاديمية روما، وتفاعل كل من حسن كامل وهشام عبدالله مع نماذج عالمية للنحت والعمارة المعاصرة في العديد من الدول التي مثلوا مصر في فاعلياتها، وأدركوا قيمة الارث الفني المتنوع الذي تتمتع به مصر، لكنهم ظلوا يحملون بداخلهم غضب واستياء لمدى التشويه الذي وصلنا إليه، وإلى التضحية بالهوية الثقافية عند أول منعطف، من أجل انتاج أشكالا معولمة لا شخصية لها. كانت البداية حينما اجتمع ثلاثتهم مع فنانين آخرين في قاعة أفق عام 2012، وكان اتجاه كل منهم محدد وشدبد الوضوح، ينهل القرعلي من العمارة الاسلامية، وحسن كامل من النحت الفرعوني،بينما لجأ هشام عبدالله إلى الريف المصري متمثلا بساطته وأفقه الحالم. تميزوا في تقاسمهم رؤية مشتركة حول عمارة المدينة، قوامها الانطلاق من مصادر شديدة المحلية من أجل الوصول إلى رؤية نحتية معمارية (أو عالمية الوعي ومحلية المصدر) كما يقول حسن كامل، وقرروا تكوين جماعة فنية أسموها «ممر» انشغلت بالرؤية المعمارية للنحت. وتنوعت مشروعات كل منهم الفنية منذ معرضهم الجماعي الأول في نوفمبر 2013 بقاعة الهناجر، فكانت المدينة التي تصورها القرعلي (المصرخانكية) التي تقسم إلى كلمتين مصر و»خانقه» أي مكان العبادة. استلهم الفنان مصدر العمارة الاسلامية، ليس بطابعها الديني، ولكن بمفهومها الانساني الذي يضع الانسان في مقدمة ومحور العمل النحتي والمعماري، مسترشدا بالتاريخ الانساني للعمارة الاسلامية حيث كان المسجد الجامع هو مدرسة يضم حوله مناطق سكنية ومناطق عمل وحياة كاملة تتسم بنفس ذات الروح ونفس النسيج. واعتمد القرعلي في مشروعه المعماري على أنصاف القباب التي تراعي الإضاء الطبيعية وممرات الهواء، واعتبر مشروعه هو مشروع حياة يتراكم ويتطور تباعا ويقدم في كل مرة تفصيلة وعنصرا محددا من مدينته العصرية، مثلما هو الحال في المعرض الحالي بقاعة المشربية، حيث يقدم قطعا نحتية ذات اشكال هندسية، يعتمد معظمها على الشكل النصف دائري المصنوع من البرونز الذي يمزج ما بين الاحساس بالآلة شديد العصرية وبين العناصر المفرغة الأشبه بالمشربية. أما حسن كامل، فعلى عكس أحمد قرعلي، تتمدد مدينته بشكل رأسي مثل أبراج شاهقة تشق الفضاء كما قال عنها الناقد عز الدين نجيب، وتتخذ من المسلة الفرعونية مصدر الهام من حيث البعد الرمزي والعلاقة بين الأرض والسماء، وتتبدى له كأكثر الأشكال تعبيرا عن التمازج والتماهي بين العمارة والنحت. حيث المفردات الهندسية والتشكيلية للنحت المصري القديم مثل قمة المسلة بخطوطها المشطوفة، أو الأشكال المستطيلة المتداخلة بشكل تكعيبي مكونة لوحدة أشبه بالمعبد، أو الوحدات الزخرفية النصف دائرية ولكنها رغم كل هذه التفاصيل التي لا تخطئها عين تبدو في مجملها مثل مدينة مستقبلية بامتياز، كما لو كان الفنان في بحثه عن الجوهر قد أزال العديد من الطبقات والقشور ليصل إلى جوهر روح المصري القديم في ثياب عصرية. أما مدينة هشام عبد الله فتقف في منطقة وسيطة بين عمارة الريف التقليدية وبين روح الحلم والخيال. يطور عبدالله من مدينته التي قدمها العام الماضي والتي استلهم فيها الروح الفطرية للعمارة الريفية التقليدية ليضفي عليها طابعا غرائبيا حالما. حيث يسرف في استخدام الدرجات والسلالم التي تشير إلى عالم سفلي وعالم علوي يذكرنا بالاساطير الاغريقية، أو درجات الوجد الصوفي فضلا عن جماليات الفضاءات المتدرجة هبوطا وصعودا، بينما تعتلي هذه المدينة كاملة معلقة فوق أعمدة معدنية تفتح أبوابا لانهائية للخيال والتحليق. يطول «الممر» الذي اتخذته الجماعة الفنية اسما لها ليجسد العبور من جنس فني إلى آخر، والتفاعل فيما بين النحت والعمارة، ويتسع مع اتساع حلم المجموعة بألا تكتفي بالنحت والعمارة، بل تشمل كل عناصر بناء المدينة الجديدة من تشكيل وأزياء وبحث وغيرها. حلم «الممر» بأن يكون هو المختبر والمساحة البينية بين الفنون التي تسعى لاستعادة الطابع الانساني من جديد.