نشرت جريدة «الأهرام» منذ أيام خبرا مفاده أن أحد المواطنين أهدى وزارة الآثار ميدالية تذكارية فريدة مصنوعة من البرونز خاصة بمحمد على حاكم مصر فى النصف الأول من القرن التاسع عشر، وكان المواطن الذى لم تذكر الجريدة اسمه قد ورث الميدالية عن جده، وعلى أحد وجوهها نقش بارز يظهر فيه محمد على باشا بالزى الألبانى قابضا على سيفه إلى جوار تاريخ ميلاده ووفاته (1769-1849) وعلى الوجه الآخر نقش بارز لأهم إنجازاته ممثلا فى سفن حربية ومدافع ونبات القطن والقناطر الخيرية، وتحتها كتبت عبارته «لن أخشى حكم التاريخ». وهذه العبارة بالذات ما دعتنا لتحرير هذه المقالة فليس ثمة شك أن محمد على هو المؤسس الأول لمصر الحديثة، وصاحب بصمات نهضوية مميزة تتجلى فى ربوع شتى من الوطن مع أنه ليس ابنا من أبنائه. ويمكننا دون مبالغة أو شبهة من جور أن نقول إن محمد على سعى لتطوير الحياة فى مصر رغم أنفه لأنه كان يسعى بكل همة لتحقيق أهدافه وأحلامه متأثرا بنابليون الذى اعترف بإعجابه الشديد به فى مناسبات عدة. ولم يكن بقادر على اقتفاء آثار القائد الفرنسى لو كان محروما من الخيال والإرادة وتحجر القلب، فلم يخضع لأية عاطفة حتى تجاه أولاده. ولم تكن أمانيهم هى أمانيه ولكنه المجد والإمبراطورية ولاشيء مطلقا سواهما، وقد بدأت أحلامه الصغيرة فى البزوغ بعد فشل الفرنسيين فى تنفيذ مخططهم الذى استهدف حكم مصر بوصفها مركز العالم وتكوين إمبراطورية تحقق لهم الهيمنة الكاملة على القارات الثلاث وعلى البحرين الأبيض والأحمر والمحيط الهندى وكل الطرق البرية. قدم محمد على إلى مصر مع الفرقة الألبانية المشاركة فى الحملة العثمانية الموجهة - بتحريض من الانجليز - لطرد الفرنسيين من مصر، ولما تحقق الهدف العثمانى وغادر الجميع المنطقة آثر الألبانى البقاء عازما على التقدم نحو صدارة المشهد السياسى فمضى يتقرب من القوى الشعبية صاحبة الرأى والقرار وفى مقدمتهم رجال الدين وفى الوقت ذاته داهن المماليك، وسعى لاسترضاء السلطان العثمانى حتى ظفر بتولى حكم مصرعام 1805، وسرعان ما تخلص من أبرز الوجوه المصرية ومنهم العلماء، ثم أجهز على المماليك عام 1811 فى مذبحة القلعة التاريخية ليبدأ رسميا وعمليا مشروعه الإمبراطورى الذى وهبه كل تركيزه ودهائه وكل نقطة دم فى عروق المصريين وكل سحتوت من أموالهم التى أخذ ينزحها يوما بعد يوم دون توقف حتى رحيله. لم يكن الباشا يسمع أو يرى أو يحلم أويحس إلا بالإمبراطورية التى يجب أن ترث الدولة العثمانية التى تتبعها خمس عشرة دولة شرق أوسطية، ولم يكن للمصريين أى وجود فى جنته أو فى ذهنه إلا كمصدر دائم للتمويل كى يجهز الجيوش الضخمة. وقد حقق الباشا لنفسه ولجيوشه الجرارة نهضة صناعية وتعليمية لأن الغزوات تقتضى تجهيز هذه الجيوش بما يلزم من الخبز إلى المدافع ومن الأزياء إلى المدارس الحربية والطبية والهندسية، ومن القطن إلى الحديد والنحاس، كما تطلب الأمر تأسيس المصانع المتخصصة، ولم يسمح للفلاحين ببيع محصول أراضيهم ولابد من تسليمه كاملا لرجال الباشا حتى يغذى الجنود والخيول، وأنشأ المستشفيات حتى تعالج الجرحى والمرضى من العسكر ، وأنفق الأموال على استيراد كل ما يحتاجه المشروع الإمبراطورى ، وكان كل من يتولون المناصب القيادية من الأتراك والألبان بل واليهود، أما نصيب المصريين فكان العمل على إنتاج زيت السمسم .. عمل الباشا الكبير نحو خمسة وأربعين عاما على بناء مشروعه الذى تحطم مرتين، الأولى عام 1827 بعد موقعة نفارين، حيث حشدت انجلترا وفرنسا وروسيا كل أساطيلها لكسر شوكة الأسطول المصرى الذى تحطمت جميع سفنه التسعين بالقرب من شواطئ اليونان، وجاءت الضربة القاصمة تنفيذا لاتفاقية لندن عام 1840التى أرغمت الباشا على ألا يتجاوز حدود مصر لأى سبب. وبعد، فهل يحق للباشا أن يقول: أنا لا أخشى التاريخ، مطمئنا إلى أنه غيّر وجه الحياة فى مصر؟.. ومن دواعى الأسف أن يتجاهل بعض المؤرخين حق الشعب المصرى الذى عومل بقسوة لا نظير لها وانشغلوا بالمنجز العملى الذى سالت له دماء وعرق الفلاحين على مدى نصف قرن، وكانت النظرة الموضوعية تحتم أن يكون حق الشعوب فى العيش الكريم هو الأولى بالاعتبار و المعيار الأساس لتقييم كل حاكم. لمزيد من مقالات فؤاد قنديل