قبل أن تقرأ.. لااريدك أن تقرأ موضوع "المرماح" قبل ان تعرف ماهو المقصود من نشر هذا الموضوع الآن وماهو معنى الكلمة ومقصدها .. فتراث صعيد مصر اللامادى الانسانى سيظل كنوزا مدفونة مجهولة مليئة بالاسرار والالغاز وعلامات الاستفهام طالما ظل هكذا خبيئة مكنونة فى الذاكرة لايعرفها الاخرين من غير اهل الصعيد.. ولقد تعرضت الى اسئلة وسمعت ملاحظات كثيرة على مسميات ومصطلحات او مفردات صعيديه ، استغربها زملاء كلما تعرضت الى مثل هذه النوعية من الموضوعات التى تتعلق بالعادات والتقاليد والحكايات القديمة فى الصعيد، ومنهم من كان يسألنا عن معنى الكلمة ولماذا لانستخدم كلمة بديلة سهلة تشرح القصد منها، ولكن كنا نتمسك بان تكون كما هى تنطق وتستخدم بين اهلها حفاظا عليها فمثلا مصطلح المرماح الذى جاء عنوانا لهذا الموضوع مصدرها من كلمة يرددها ابناء الصعيد وهى الرمح " بفتح الراء " اى الجرى، وبما أن هذا سباق تجرى فيه الخيول وتتسابق او كما يقولون ترمح،فقد اطلق على هذا السباق المرماح ، أما المقصود من نشر هذه النوعية من الموضوعات وفى رمضان هو استكمال لسلسة "وصف قرى مصر او وصف مصر الاخرى " التى لايعرفها اهلها.. ومن ثم كان لابد من هذه المقدمة .. هيا بنا الى المرماح وتفاصيلة كانت الساعة التاسعة صباحا ، عندما توقف بنا عم مكرم سائق السيارة التى كانت تقلنا إلى صحراء الكوبانية على بعد 20 كيلو مترا غرب أسوان نظر إلينا وإبتسم وقال : هنا مرماح الكوبانية .. وعاشت الخيول حرة لم تكن صحراء الكوبانية موحشة شاسعة قاحلة خالية من البشر كما هى طبيعة الصحارى ، بل كانت عروسا تتزين بالخيول وشجاعة الفتيان الذين تراهم وهم يرتدون الزى الأسوانى من ثلاث قطع « سروال وقميص أبيض وعليه سديرى أسود وعمامة فوق الرأس.. تعلن عن ميلاد فارس جديد ، كان هؤلاء الفتيان الذين تراهم وقد إمتطوا خيولهم بعلياء وتفاخر ، جاءوا من قرى ومراكز محافظتى اسوان وقنا وتحديدا من إدفو ودراو وكوم إمبو وإسنا وقوص ونقادة، من قرى معروف عنها أنها تعد العدة تنتظر هذا اليوم على أحر من الجمر لتشارك وتنافس ولتفوز فيكتب لها تاريخا مجيدا فى الفروسية والشجاعة وركوب الخيل. والمرماح حسب عشاقه ومحبيه من أصحاب الخيول والخيالين المهرة ، ليس سباقا للفروسية بالمعنى الحرفى والمعروف وإنما على كل خيال أن يظهر براعته فى الفروسية وركوب الخيل وإعلاء شأن وسمعة الحصان أو الفرس الذى يركبه بائعى السرج واللجام وزينة الخيول وأصحاب عربات الفول النابت والطعمية والحمص الشام والشاى والشيشة ، تراهم الأكثر سعادة وفرحا بيوم المرماح ، منذ الصباح الباكر ربما فى الساعات الأولى من الفجر يأتون إلى المكان يشدون حبالهم وخيامهم وكأنهم فى سوق الجمعة ، فلايمكن أبدا أن تشعر بأنك فى صحراء ولايمكن أبدا ان تمشى أو تنصرف إلا إذا أكلت وشربت وضحكت وعرفت أن فى يوم المرماح تكرم البلدان أو تهان خالد صابر ،رجل يبدوا عليه انه فى الخمسين من عمره خيال معتزل ، واحد من أبناء الكوبانية المشهود له بأنه واحد من أهم الذين عشقوا الخيل وتربيته وركوبه والتسابق به فى كل مرماح شهدته قرى أسوان ومراكزها سألته : هل انت الذى تنظم هذا المرماح وتشرف عليه أجاب خالد مبتسما : عمر هذا المرماح أربعون عاما ومنذ ان عرفت ركوب الخيل وأنا أواظب على المشاركة فيه ، ومنذ أن أعتزلت وأنا أحرص على تنظيم هذا السباق ودعوة كل أصحاب الخيول فى اسوان للمشاركة قلت : وماهى جائزة الفائز؟ قال : لاشئ سوى الفخر والعزة وراية خضراء يمسكها ويهتف له أنصاره وعائلته ويحكى خالد كيف أن عائلات وبلدان تنتظر هذا اليوم وكأنه عيد ، وأن أسوان تشهد لوحدها 12 مرماحا فى العام ، فهناك مرماح قرية كلح القارة يوم 25 مارس من كل عام ، وبنبان 25 أبريل وأدفو فى اول مايو والعربى فى يونيو وفى عيد الأضحى مرماح االبصيلة ، هذا غير مرماح ليلة النصف من شعبان وعيد الفطر ومولد البسطاوى ، بإختصار لايمر شهر إلا وتجد مرماحا منصوبا فى إحدى قرى اسوان أوقنا ، تاتى إليها مواكب الغاويين والعاشقين بحثا عن مجد وتاريخ من فوق ظهر جواد خالد صابر وأنور المسيدى وغيرهم من الذين عرفهم الناس فى أسوان بأنهم عشاق للخيل والمرماح لايهتمون بمن يكسب ويخسر بقدر مايهتمون بمن يشارك ، وكلما إزداد عدد المشاركين وأصحاب الخيول إطمأن هؤلاء وإنفرجت أساريرهم السيارات ربع نقل التى جاءت اسرابا تحمل خيولا وبشرا ، رجالا وفتيانا وصغار كانت مصدر سعادة لكل الحاضرين والمشاركين ، ولاتستغرب إذا سمعت من يعدد لك أسماء والقاب الخيول المشاركة فى المرماح «الباسل ، وفرعون والقصبجى والشبح والروش وحياتى إنت وابوشقرة « وبحسرة يتذكرون بابوتريكة الذى مات فى مرماح إسنا ، و"زى الريح" الذى لم يأت فى هذا المرماح فافقده طعمه وسخونته ، لايتركونك إلا حدثوك عن اسعارها ومن هم اصحابها وكيف أن ادفو هى الأعلى فى نسبة المشاركة وإسنا تنافسها وكيف أن قرى فارس والرمادى والحريبات تحلم بالمجد هذا العام ، وأن خيول مدنى وعلى العلول وابوعمار لايغلبها غلاب ولايسابقها الريح حكيات كثيرة تسمعها ، وتصفقيق وإنتصار وهتاف يقطعك كلما فاز حصان وعاد خياله ممسكا براية خضراء وسط هتاف انصاره وعائلته , لم يكن غريبا حالة الحزن التى رايت عليها انور المسيدى وهو يحكى لى متحسرا على حاله ، كيف كان خيال يشهد له منافسوه بالمهارة والفروسية ولم يكسب إلا كوبا من الشاى وسيجارة من وراء هذه الهواية ، فحين أن ابناءه من الذين تعلموا ركوب الخيل على يديه، الواحد فيهم يتحصل على أكثر من 500 جنيه فى المرماح الواحد وقد يكون الفا وأكثر ، وأكثر من ذلك فهناك خيال وعده صاحب الخيل بأنه إذا فاز فى مرماح إسنا وجعل حصانه فى المقدمة، فسوف يبنى له شقة ، وقد كان فاز الخيال بالشقة بعدما فاز الفرس بالمرماح كثير من الناس يتصور أن للمرماح ميقاتا وموعدا كماهى العادة فى سباقات الخيل الأخرى، وهذا لايحدث ، فللمرماح طقوس وشروط خاصة لاتحددها لأئحة ولا لجنة تنظيم المرماح ، إنما تحددها حالة التوافق بين المتسابقين ، والسباق دائما يكون بين أثنين من الخيول وممنوع أن يكون المتسابقون من بلد أو قرية واحدة ، وفى الماضى كان المرماح يتم بطريقة الطارد والمطرود أى يقطع المتسابقين المشوار ذهابا وإيابا ، والفائز فى الشوطين كان يطلق عليه الرابح بإمتياز ، إذا نجح فى أن يغمد منافسه بطرف جريدة نخيل يمسكها فى يده كأنها حربة , إنها السعادة كل السعادة عندما يعود الفتى المتسابق ممسكا براية خضراء فى يده ، وخيبة كل الخيبة إذا عاد مطاطئ الراس طالبا فرصة أخرى ، فالعائلة التى يكسب حصانها تظل تتباهى بهذا الفوز من العام وحتى العام الجديد.