يعرف الجميع أن الوسامة من مقومات النَّصاب الأهم، وأن حلاوة اللسان هي المقوم التالي والأكثر أهمية، والعَالم بأسره يعرف هذه المعلومة القديمة، ولكنه مجنون ويقع في فخٍّ بعد آخر منذ الأزل، العالم مجنون ولا يتوقف ولو لدقائق معدودة ليهدأ ويتساءل: ماذا فعل بالأرض؟ وماذا يريد أن يفعل؟ وإلى أين يتجه؟ لقد كانت هذه هي حالته دائمًا مع كلِّ دعاة الفاشستية الكبار.. هؤلاء الذين يتفوهون بكلماتٍ حلوة براقة ويمتلكون وسامة النَّصابين وبلاغتهم ويتكئون على ما لا يمكن رفضه أبدًا، فهل كان للعامة من الألمان المساكين ألا يحبون ويتبعون الكلمات الرنانة لزعيمهم النازي هتلر؟ بينما إعلامه يردد على أسماعهم ليلاً ونهارًا: أنتم من العِرق الآري، أنتم سادة الجنس البشري لأنكم أقوى ولأنكم متفوقون على كل الأجناس. كانت كلماته كأنها تعاويذ سحرية إبليسية تجعل الشعوب تُلقي أنفسها إلى آتون حرب عالمية أسفرت عن ضحايا وصلوا إلى ملايين القتلى! وتحولت ألمانيا إثرها إلى أرض خربة مجدبة. وهل كان لمريدي ماركس وأنجلز ولينين أن يعترضوا على الحلم بإقامة مجتمع ثوري اشتراكي خال من الطبقات ومبني على الملكية المشتركة لوسائل الإنتاج خصوصًا أمام الرأسمالية الغربية المتوحشة؟ أدت النظرية إلى الكثير من التجاوزات في تطبيقها وإلى حٌكم شموليّ مغلق على نفسه، كما أدت إلى صراع حاد استمر سنوات طويلة، وبلغ ذروته بإعلان الحرب الباردة بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية. وأخيرًا هل كان من الصعب أن يُخدع شباب أعضاء جماعة الإخوان المسلمين والتيارات الإسلامية بشكل عام والمسلحة منها بشكلٍ خاص بعباراتٍ هي الأحلى والأخطر لأنها تبدو للوهلة الأولى وكأنها كلمات الله عزَّ وجلَّ؟ بل هم بالفعل يقتطعونها من سياقها في القرآن الكريم ويجتزؤون تعاليم الإسلام المقدسة كيفما تراءى لهم، ثم يعيدون صياغتها وفقًا لأهوائهم وأغراضهم البعيدة كل البعد عن الدين الحنيف، فنجد قياداتهم يرددون دون توقفٍ: الشريعة الشريعة.. الشهادة الشهادة.. الجنة الجنة. منذ ثلاث سنوات والشارع المصري لا يتوقف عن ترديد كلمات.. المدنية.. حقوق الإنسان.. الديمقراطية.. الصندوق.. المنتخب الشرعي. يرددونها دون توقف خلف إعلاميين يرددونها بدورهم دون التوقف للحظات لتجربة النطق بكلمات جديدة. وعلى ما يبدو أن هذه هي المفردات التي خرجت من خزانة دعوة «كونداليزا رايس» الشهيرة لتحقيق الفوضى الخلّاقة في الشرق الأوسط.. خلّاقة بالطبع لأمريكا وإسرائيل والغرب، بينما هي خراب وانهيار وإعادة تقسيم للدول العربية. إن التاريخ يعلمنا أن قطارات الخراب التي مرت على الأرض لم تتوقف إلا بعد أن هدأت الجموع وكفت عن ترديد الكلمات الإعلامية البراقة قبل أن تفهمها بعمق، وتحللها متسائلة عن علاقة هذه الكلمات بالسطو على ثرواتها ومقدراتها الطبيعية أو تعطيل مسيرتها التنموية والتاريخية، أو عن مصدر هذه الكلمات وما هي دوافعها ودوافع مَن أطلقها بالضبط. هذه هي الخواطر التي تلوح أمام عينيَّ قارئ رواية «الإرهابية الطيبة» ترجمة سحر توفيق، والصادرة عن سلسلة الجوائز بالهيئة المصرية العامة للكتاب، ولقد صرحتْ صاحبة الرواية الكاتبة الإنجليزية «دوريس ليسنج» الحائزة على جائزة نوبل للآداب عام2007، أنها استوحت شخصية بطلتها المجنونة من شخصية حقيقية كانت تسكن بجوارها في منزل مهجور، استولت عليه مع رفاقها الراديكاليين الثوريين حيث قرروا أن يعيشوا فيه ويديروا أعمالهم الإرهابية منه، وتضيف «دوريس ليسنج» إنها عندما سمعت بتفجيرات بعض المحال التجارية في لندن في ثمانينات القرن العشرين خطر لها أنه ربما لهذه الجارة الإرهابية يد في العمليات، بما إن الشرطة قد تبينت من أسلوب التفجير أن مَن نفذ هذه العملية من الهواة. الرواية تدور إذًا عن انزلاق بطلتها «أليس» وهي فتاة طيبة من الطبقة الوسطى و أصدقائها من الشباب دون قصدٍ أو معرفة في أعمال خطيرة. هم يعيشون في هذا البيت المهجور الذي يستولون عليه بطريقة بوهيمية وهم يرددون ما لا يفهمون، وليس لهم هدف محدد في حياتهم سوى الرفض في حدِّ ذاته والتمرد على ما يفهمون وما لا يفهمون وعلى ذويهم وعلى كلِّ شيء. يقع زمن أحداث الرواية في لندن في ثمانينات القرن العشرين، ولكن «دوريس ليسنج» ترسم شخوصها بحنكة وبعين ترى الماضى والحاضر والمستقبل أيضًا، فيصبح من السهل أن نتعرف على بعض شخوصها بمجرد رؤيتها في اللحظة الراهنة حال تشابه الأحداث. سنرى المشاعر الحزينة للجموع هي المشاعر نفسها في كل زمان وفي كل مكان تفجير جديد يباغت المسالمين.. سنرى الحزن نفسه والغضب نفسه حين ينظف المسالمون حطام تفجيرات الإرهابيين، ويعيدون بناء ما تهدم بصبر، بل يدفنون أشلاءهم الممزقة جرَّاء العمليات الإنتحارية برثاء ومحبة، ويحاولون دائمًا مناقشتهم بهدوء متسائلين: هل يصعب تغيير العالم دون إراقة دماء؟ هل من الصعب تغيير العالم إلى الأفضل بالمحبة والعمل؟ وهل يصعب أن تتوقفوا للحظاتٍ قبل إلقاء قنبلة بدائية الصنع لكي تتساءلوا لماذا تريدون تدمير الحياة؟ ومن أجواء الرواية هذا الحوار بين البطلة الإرهابية «أليس» وأمها الطيبة «دورثي»: ((شعرت «أليس» بألمٍ لا يمكن التعبير عنه، وجلست في وضع متقزمٍ منكمشٍ تستمع إلى أمها وهي تواصل قائلة: - أوه، أنتِ تجرين على غير هدى، تلعبين لعبة الثورات، تلعبين ألعابًا صغيرة تظنين أنها مهمة، هذه بالضبط هي صفات العمالة، إنكِ لا تفعلين أي شيء أبدًا. قالت «أليس» بهدوء وثقة: إنكِ لا تفهمين يا أمي، إننا سوف نهدم كل شيء، هذا الهراء القذر الذي نعيش فيه، كله سوف ينهار، وحينئذ سوف ترين. أعاد هذا «دورثي» إلى وعيها بنفسها، عاد حذرها القاسي، ووضعت مسافة بينها وبين ابنتها، ومرة أخرى بدت عيناها الخضراوان مثل حجرين، وقالت: وحينئذ سوف تبنون كل شيء مرة أخرى على الصورة التي تريدونها! يا له من منظر! وضحكت، وإذ بدأت «أليس» تتحول إلى الاحمرار، هبت على قدميها: أوه، «أليس»، لا تسيئي فهمي.. من المحتمل أن تفعلوا هذا، ومع وجود الكثيرين من نوعكِ، وفكرة واحدة في عقولكم: كيف يمكن لكم الحصول على السلطة لأنفسكم))؟