ما يحدث فى العراق اليوم، بعد تقدم مسلحى تنظيم "الدولة الاسلامية فى العراق والشام"، أو ما يطلق عليها اسم «داعش» فى عدة مناطق عراقية، أصبح يهدد ليس فقط أمن واستقرار العراق ووحدة أراضيه بل كل الدول العربية وخاصة دول الخليج. هذه المقولة التى تجد اجماعا من الخبراء والمحللين الخليجيين لها ما يبررها، فقد أجمع هؤلاء على أن الأوضاع التى وصل إليها العراق ليست أمرا طارئا أو محض مصادفة بل مخطط رسم منذ خمسينيات القرن الماضى على يد إسرائيل وبالتعاون مع الولاياتالمتحدةالأمريكية وبريطانيا، مفاده أن يقسم العراق لثلاث دول: دولة كردية فى الشمال، ودولة سنية فى الوسط، ودولة شيعية فى الجنوب. وكما يقول جاسم خلفان باحث إماراتى فى الشأن الخليجى إن العالم العربى ليس بمعزل عما يحدث فى العراق، فالأمة العربية واقفة على أعتاب اتفاقية «سايكس بيكو 2» على غرار اتفاقية «سايكس بيكو» المبرمة بين فرنسا وبريطانيا عام 1917 أثناء الحرب العالمية الأولى وهدفت إلى رسم حدود لمنطقة الشرق الأوسط. ويؤكد خلفان أن المنظومة العربية كلها مستهدفة، ودول الخليج بما فيها الامارات تدخل ضمن مخطط التقسيم أو ما يسمى بالشرق الأوسط الكبير. فشبح التقسيم وإعادة رسم خريطة المنطقة اصبح يلوح فى الأفق، بداية بالدول الإقليمية الكبرى كما هو الحال فى سورياوالعراق، ثم يتبع الدول الكبرى تقسيم آخر لمنطقة الخليج الغنية بالنفط والاستثمارات كالسعودية والامارات والكويت. وفى الواقع أن فكرة التقسيم تم إحياؤها عدة مرات. ففى عام 1973 قدم وزير الخارجية الأمريكى هنرى كيسنجر مشروعا يتضمن تقسيم جميع الدول العربية على أسس طائفية. أما نائب الرئيس الأميركى جو بايدن كان أكثر دقة وحنكة عندما كان عضوا فى مجلس الشيوخ عن ولاية ديلاوير الأميركية عام 2006، حيث اقترح تقسيم العراق إلى ثلاث مناطق ذات استقلال شبه ذاتى للشيعة والسنة والأكراد. ويقول حسن الصبيحى، أستاذ الاعلام بجامعة الامارات ان بداية المخطط لفكرة تقسيم العراق كانت بإختار رئيس الوزراء العراقى نورى المالكى المعروف عنه الطائفية والموالاة الإيرانية . وتساءل الصبيحى عن دور الولاياتالمتحدة فى تسليم العراق بعد الانسحاب لشخصية معروف عنها بعدم ولاءها للعراقيين، مشبها المالكى بالقنبلة الموقوتة. وأن ما حدث فى العراق هو نتيجة لتراكم أخطاء بدأت مع الاحتلال الأمريكى وصولا إلى اليوم مع وجود حكومة المالكي. وأن الذى يحدث فى العراق يجرى مثله فى سوريا وفق مخطط مدروس يتم تنفيذه بعناية دقيقة مما يدل على وجود قيادة واحدة تنظم وتخطط ولديها إمكانات وقدرات فاعلة ومهمة، الأمر الذى يزيد الشكوك حول القوى الخارجية التى تقف وراء الجماعات الإرهابية المتطرفة فى العراق... وإلا فكيف يمكن أن يفسر لمثل ذلك التنظيم «داعش» الذى لا يمتلك إلا بعض الأسلحة الخفيفة وإمكانات محدودة من الأفراد أن يقهر جيش نظامى مدجج بالسلاح قوامه الآلاف. ويؤكد الصبيحى أن جميع الطوائف داخل العراق أصبحت مسلوبة الإرادة بما فيها المالكى نتيجة تدخل القوى الخارجية التى تسير الأمور حاليا على الأرض. ويرى كثير من الساسة الخليجيين أن المالكى هو أساس المعضلة العراقية برمتها، فهو لا يمكن اعتباره المدافع عن العراقيين ولا حتى حقوق الشيعة أنفسهم، فعندما تكون قوات "داعش" ،التى تلصق نفسها بالسنية، على مسافة لا تزيد على 60 كلم من بغداد وعندما ايضا تكون السنة والأكراد والكثير من الأطراف الشيعية ضده فضلا عن أنه خسر مدينة كركوك وعادت البلاد إلى أجواء الحرب الأهلية، فذلك يؤكد أنه ليس فى يده الحل وأن وقته قد انتهى. وحملت دول خليجية بشكل صريح حكومة المالكى المسئولية لما آلت إليه الأوضاع، معتبرة أن ما يجرى فى العراق نتيجة طبيعية لسياساته الإقصائية والتمييزية على أسس طائفية وباعتباره أداة فى يد ايران. ويقول محمد المطوع كاتب ومحلل سياسى إماراتى أنه لا يجب أن نغفل الوجود الإيرانى من هذا المشهد. فإيران نجحت فى إيجاد الفوضى فى المنطقة بعد ثبوت قدرتها على العمل فى مناخ فوضوى كما كان الحال فى أفغانستان وحاليا فى العراق، فضلا عن تدخلها السافر والواضح فى سوريا. ويرى الخليجيون أن طهران أصبحت لها القدرة على التحرك بخطوات واسعة وبثقة عالية بعد أن ألمحت واشنطن بدور محدد لإيران داخل العراق يجرى التفاهم عليه نظرا لوجود مصالح مشتركة بين الجانبين. فالولاياتالمتحدة، التى تعلم انها مسئولة بشكل كبير عن هذا الفشل الذى أصاب العراق، تحاول بشتى الطرق إنقاذ الموقف سريعا من خلال تأثير النفوذ الإيرانى الكبير على الشيعة داخل العراق وأيضا من خلال بوابة دول الخليج السنية، حيث أجرى وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى فى باريس الاسبوع الماضى عدة لقاءات مكثفة مع قياداتهم شملت وزراء خارجية السعودية والإمارات بالضافة الى وزير خارجية الأردن. ويعتقد كثير من الخبراء أن اللقاءات المكثفة التى عقدها كيرى مع القادة الخليجيين فى باريس وزيارته للعاهل السعودى الملك عبد الله أخيرا ربما تكون الفرصة الوحيدة المتاحة لإدارة أوباما لتحقيق تسويات سياسية فى المنطقة تحافظ على المصالح الأمريكية وتمنع انتشار خطر الإرهاب. ولعل هذا الحراك من جانب واشنطن داخل العراق مع حكومة المالكى ومع معارضيه، أدى الى اعتراف المالكى بضرورة الحل السياسى وذلك للمرة الأولى منذ بدء الأحداث الدامية فى العراق. فضلا عن محاولة واشنطن لإقناع دول الخليج وخاصة السعودية والامارات باستخدام نفوذهم لتشجيع السنة على الانضمام لحكومة جديدة فى العراق تضم مختلف الأطياف لمحاربة المتطرفين المسلحين بشكل أفضل. قد تنجح الادارة الأمريكية وقد تفشل فى إيجاد مخرج للأزمة العراقية، لكن هل ستبقى الدول العربية فى حال المراهنة على القوى الخارجية لحل أزماتهم ومشاكلهم الداخلية؟ فإن لم تتحرك الدول العربية سريعا وتجعل مصلحة العراق ووحدته واستقراره هدفا لها، فسوف ترتد الكرة عليهم خاصة على دول الخليج التى هى ليست بمعزل عن شبح التقسيم.