مرصد الأزهر يستقبل وزير الشؤون السياسية لجمهورية سيراليون للتعرف على جهود مكافحة التطرف    شوبير ام الشناوي.. تعرف على حارس مرمى الاهلي في مباراة الترجي التونسي    الأرصاد تحذر من موجة حارة تبدأ من اليوم حتى الاثنين المقبل    بعد توقف مولدات الكهرباء.. خروج مستشفى غزة الأوروبي عن الخدمة    هدوء حذر.. سعر الذهب والسبائك اليوم الأربعاء بالصاغة وعيار 21 الآن يسجل هذا الرقم    سلمان رشدي: محاكمة ترامب في قضية منح أموال لشراء صمت ممثلة أفلام إباحية قد تفضي لسجنه    النائب إيهاب رمزي يطالب بتقاسم العصمة: من حق الزوجة الطلاق في أي وقت بدون خلع    تقسيم الأضحية حسب الشرع.. وسنن الذبح    اليوم، التشغيل التجريبي ل 5 محطات المترو الجديدة بالركاب (فيديو وصور)    "بنكنوت" مجلة اقتصادية في مشروع تخرج طلاب كلية الإعلام بجامعة جنوب الوادي (صور)    جناح طائرة ترامب يصطدم بطائرة خاصة في مطار بفلوريدا    الإعلان عن أول سيارة كهربائية MG في مصر خلال ساعات    امرأة ترفع دعوى قضائية ضد شركة أسترازينيكا: اللقاح جعلها مشلولة    عرض فيلم Le Deuxième Acte بافتتاح مهرجان كان السينمائي    مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 15 مايو في محافظات مصر    3 قرارات عاجلة من النيابة بشأن واقعة "فتاة التجمع"    بسبب الخلاف على إصلاح دراجة نارية .. خباز ينهي حياة عامل دليفري في الشرقية    المالية تزف بشرى سارة للعاملين بالدولة بشأن مرتبات شهر يونيو    "دوري مصري ومنافسات أوروبية".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    أمير عيد يكشف موعد ألبومه المُقبل: «مش حاطط خطة» (فيديو)    أحمد حاتم بعد انفصاله عن زوجته: كنت ظالم ونسخة مش حلوة مني (فيديو)    سمسم شهاب يترك وصيته ل شقيقه في حال وفاته    وليد الحديدي: تصريحات حسام حسن الأخيرة غير موفقة    «تنمية وتأهيل دور المرأة في تنمية المجتمع».. ندوة لحزب مستقبل وطن بقنا    أمين الفتوى: الصلاة النورانية لها قوة كبيرة فى زيادة البركة والرزق    عاجل - مبTHANAWYAاشر.. جدول الثانوية العامة 2024 جميع الشعب "أدبي - علمي"    شوبير: الزمالك أعلى فنيا من نهضة بركان وهو الأقرب لحصد الكونفدرالية    الهاني سليمان: تصريحات حسام حسن تم تحريفها.. والتوأم لا يعرف المجاملات    كاف يهدد الأهلي والزمالك بغرامة نصف مليون دولار قبل نهائي أفريقيا | عاجل    نشرة أخبار التوك شو| تصريحات هامة لوزير النقل.. وترقب لتحريك أسعار الدواء    قيادي ب«حماس»: مصر بذلت جهودا مشكورة في المفاوضات ونخوض حرب تحرير    حظك اليوم وتوقعات الأبراج 15-5: نجاحات لهؤلاء الأبراج.. وتحذير لهذا البرج    الأزهر يعلق على رفع مستوطنين العلم الصهيوني في ساحات المسجد الأقصى    مصطفى الفقي: معادلة الحرب الإسرائيلية على غزة تغيرت لهذا السبب    بوتين: لدى روسيا والصين مواقف متطابقة تجاه القضايا الرئيسية    دعاء في جوف الليل: اللهم اجعلنا ممن تفاءل بخيرك فأكرمته ولجأ إليك فأعطيته    وزير الرياضة: نمتلك 5 آلاف مركز شباب و1200ناد في مصر    سعر الفراخ البيضاء والبيض بالأسواق اليوم الأربعاء 15 مايو 2024    بشرى سارة للجميع | عدد الاجازات في مصر وموعد عيد الأضحى المبارك 2024 في العالم العربي    أثناء عمله.. مصرع عامل صعقًا بالكهرباء في سوهاج    بدأت باتهام بالتأخُر وانتهت بنفي من الطرف الآخر.. قصة أزمة شيرين عبدالوهاب وشركة إنتاج    وزير الشئون الثقافية التونسي يتابع الاستعدادات الخاصة بالدورة 58 من مهرجان قرطاج الدولي    مواعيد الخطوط الثلاثة لمترو الأنفاق قبل ساعات من بدء التشغيل التجريبي للمحطات الجديدة    تحرير 31 محضرًا تموينيًا خلال حملة مكبرة بشمال سيناء    تراجع سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الأربعاء 15 مايو 2024    اليوم.. التضامن تبدأ صرف معاش تكافل وكرامة لشهر مايو    إبراهيم عيسى: من يقارنون "طوفان الأقصى" بنصر حرب أكتوبر "مخابيل"    أسهل طريقة لعمل وصفة اللحمة الباردة مع الصوص البني    بعيدًا عن البرد والإنفلونزا.. سبب العطس وسيلان الأنف    أحمد كريمة: العلماء هم من لهم حق الحديث في الأمور الدينية    ريال مدريد يكتسح ألافيس بخماسية نظيفة في ليلة الاحتفال بالليجا    تعليق يوسف الحسيني على إسقاط طفل فلسطيني لطائرة مسيرة بحجر    نقيب الأطباء: مشروع قانون المنشآت الصحية بشأن عقود الالتزام تحتاج مزيدا من الضمانات    هل سيتم تحريك سعر الدواء؟.. الشعبة توضح    وزير الصحة يزور مستشفى كليفلاند كلينك أبوظبي.. ويشيد بالدمج بين الخدمات الطبية واستخدام التكنولوجيا المتطورة    وزارة الهجرة تشارك احتفال كاتدرائية العذراء سيدة فاتيما بمناسبة الذكرى 70 لتكريسها    جامعة الزقازيق تتقدم 46 مركزا بالتصنيف العالمي CWUR لعام 2024    «أفريقية النواب» تستقبل وفد دولة سيراليون في القاهرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صراع الخطابات الدينية فى مصر
نشر في الأهرام اليومي يوم 23 - 06 - 2014

"‬الخطاب‮" ‬هو الملفوظات اللغوية المؤدية إلى أفعال أو المقترنة بأفعال‮. ‬وهى‮- ‬من هذا المنظور‮- ‬تجسيد لأفكار ومحفز سلوكى على أفعال‮. ‬فهى اعتقاد‮ ‬ينطقه اللسان كى‮ ‬يتحقق فى الواقع.‮
و"الخطاب الدينى" هو جماع الملفوظات اللغوية التى هى من صنع البشر،‮ ‬تجسيدا لطرائق فهم بعضهم للدين،‮ ‬تفسيرا وتأويلا له بما‮ ‬يحقق مصالح المجموعة المنتجة للخطاب،‮ ‬والساعية إلى نشره وإشاعته بين المجموعة أو المجموعات المفترض أن‮ ‬يؤثر فيها الخطاب،‮ ‬ويحيلها من مرحلة الانفعال التى هى نوع من التصديق إلى مرحلة الفعل التى هى-أيضا- نوع من الاستجابة التى سرعان ما‮ ‬تتحول إلى أفعال موازية أو متولدة عن أفعال لغوية فى آخر الأمر‮. ‬ويعنى ذلك أمرين: أولهما أن "الخطاب الدينى"‮ ‬ليس هو الدين ولا نصوصه المقدسة،‮ ‬وإنما ترجمة لفهم البشر لهذه النصوص المقدسة وتأويلها،‮ ‬تحقيقا لمصالح بعينها،‮ ‬يسهل رصدها وتحليلها‮. ‬وثانيها أنه لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يوجد خطاب دينى واحد، وإنما توجد خطابات دينية متعددة،‮ ‬يمثل كل منها مصالح جماعة وتحيزات من‮ ‬يصوغونه فى كل مجال،‮ ‬الأمر الذى‮ ‬يجعل من كل خطاب رؤية متميزة للعالم: أركانها الثلاثة هى الخالق أو المطلق، والإنسان سواء فى علاقته بخالقه أو بغيره من بنى جنسه أو بالطبيعة‮ - ‬الركن الثالث- ‬التى هى مسرح لفعله‮.‬
وليس الأمر فى تعدد الخطابات الدينية مقصورا على دين دون ‬غيره،‮ ‬فهو ظاهرة عامة ومتكررة فى كل الأديان السماوية وغير السماوية‮. ‬وقد‮ ‬يصل أمر اختلاف الخطابات فى الدين الواحد إلى صراع دامٍ،‮ ‬يهلك الحرث والنسل‮. ‬حدث هذا فى المسيحية والإسلام،‮ ‬وحدث هذا بين المسيحية والإسلام،‮ ‬خصوصا فى الحروب الصليبية التى رفعت صليب المسيح الذى هو رسول سلام ومحبة، قناعا لأطماع ارتضت سفك دماء الأبرياء من المسيحيين قبل المسلمين،‮ ‬تنفيذا لمآرب سياسية ومصالح اقتصادية، وبحثا عن مغانم وأطماع، كل دين منها براء‮.‬




وقد عرف‮ الإسلام تعدد الخطابات الدينية وتنوعها الذى سرعان ما تحول إلى صراع مع انتهاء زمن الخلفاء الراشدين،‮ ‬وانقسام المصالح والأهواء التى أحالت الإخوة فى الله إلى أعداء‮. ‬ومع تزايد الصراع وتغير أشكاله عبر التاريخ الإسلامى، كانت هذه الخطابات الدينية المتصارعة تجسيدا لانقسام المسلمين أنفسهم إلى شيع وأحزاب وفرق،‮ ‬لا‮ ‬تقتصر على المسميات السياسية للدول‮ (‬أموية،‮ ‬عباسية،‮ ‬فاطمية‮..‬إلخ‮) ‬وإنما تمتد إلى مسميات المذاهب والفرق الإسلامية التى نجدها فى‮ "‬الملل والنحل‮" ‬للشهرستانى أو"مقالات الإسلاميين‮" ‬للأشعرى‮. ‬ولا أجد ما هو أصدق تمثيلا للاختلاف الذى انبنى عليه صراع الخطابات الدينية من ما أجده فى كتب التراث الإسلامى، حيث نقرأ أنه قد ثبت فى الحديث الصحيح‮ أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ‬قال‮: "‬افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة،‮ ‬وافترقت النصارى على‮ ‬اثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها فى النار إلا واحدة‮. ‬قيل‮: ‬من هى‮ ‬يا رسول الله؟ قال من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابى‮" ‬وفى بعض الروايات:الجماعة،‮ ‬رواه أبو داود والترمذى وابن ماجة والحاكم،‮ ‬وهو حديث صحيح على شرط مسلم‮.‬
والحق أن الحديث صحيح فى سنده،‮ ‬لكن فى نفسى شيئا من مضمونه الذى‮ ‬يبدو شديد الدلالة على صراع الخطابات الدينية الذى وصل إلى درجة الثنائية العدائية بين المعتزلة الذين كان منهم وزراء المأمون الذى حكم ما بين (198ه‮ ‮ 812 ) ‬والمعتصم الذى حكم ما بين‮ (812 722ه‮) ‬والواثق‮ (‬722 232ه‮) ‬الذى انقلب عليه ابنه المتوكل الذى جلس على كرسى الخلافة سنة‮ ‬232‮ ‬بفضل الجند الأتراك،‮ ‬ومناصرة الحنابلة الذين رد إليهم اعتبارهم فأطلقوا عليه‮ "‬ناصر السنة والجماعة‮". ‬ومكنهم من رقاب خصومهم المعتزلة الذين اضطهدوا أحمد ابن حنبل فى محنة خلق القرآن،‮ ‬فرد عليهم الحنابلة الصاع أصواعا‮ من الاضطهاد ‬وطاردوهم إلى‮ ‬غروب شمس الحضارة الإسلامية،‮ ‬حيث مذهب أهل السنة والجماعة، أو أصحاب الحديث، أو السلفية. وهى التسمية المتأخرة التى اقترنت بسيادة المذهب الحنبلى الذى اكتمل خطابه الدينى وأصوله الاعتقادية على‮ ‬يدى ابن تيمية الذى تبنى أفكاره محمد بن عبد الوهاب، ودعا إلى مذهبه الذى تجلى باسم الوهابية فى العصر الحديث،‮ ‬والذى أصبح الخطاب الدينى الرسمى للبيت السعودى فى شبه الجزيرة العربية‮. ‬ولذلك كان من الطبيعى أن يزاحم عبد العزيز بن سعود الملك فؤاد فى المطالبة باستعادة لقب الخلافة التى سقطت مع سقوط آخر سلاطين بنى عثمان فى الثالث من مارس سنة ‮3291ورثاها أحمد شوقى بقوله‮:‬
عادت أغانى العرس رجع نواح ‬ونعيت بين معالم الأفراح
كفنت فى ليل الزفاف بثوبه‮ ‬ودفنت عند تبلج الإصباح
وعندما بنى محمد علي الدولة المصرية الحديثة ووضع أساسا مدنيا لها‮، جعل الأزهر السنى بمذاهبه الأربعة نصيرا لها،‮ ‬لكن كان حلمه هو تحقيق ما‮ ‬يشبه التقدم الأوروبى،‮ ‬فأرسل البعثات إلى دول أوروبا الغربية،‮ ‬ومنها البعثة إلى فرنسا التى اختار له شيخ الأزهر حسن العطار تلميذه رفاعة الطهطاوى ليكون إماما‮ ‬يصلى بالمبعوثين،‮ ‬فإذا بالإمام‮ ‬يتفوق على المبعوثين،‮ ‬ويتمثل أفكار التقدم الفرنسى،‮ ‬ويعرف معنى وأهمية الفصل بين الدين والدولة، وضرورة التمييز بين السلطات،‮ ‬ويترجم من مواد الدستور الفرنسى،‮ ‬ومن مبادئ وأسس الدولة المدنية ما‮ ‬يفتح لمحمد علي (‬ولى النعم‮) ‬والمصريين أفقا جديدا لدولة مدنية،‮ ‬لا‮ ‬ينكرها الدين ولا تنكره،‮ ‬وتقوم على تحقيق مصلحة الأمة التى أصبحت وطنا،‮ ‬تطالب الطليعة المستنيرة من أبنائه بعدم التمييز بين مواطنيه وتحقيق المساواة بينهم،‮ ‬خصوصا بعد أن تمثلوا مبادئ الثورة الفرنسية‮.‬
ومنذ تأسيس الدولة المدنية الحديثة فى زمن محمد علي،‮ ‬بدأ الفصل بين الدين والدولة،‮ ‬ونشأ خطاب دينى حديث ومستنير،‮ ‬يؤمن بالفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسية،‮ ‬وأخذ هذا الخطاب‮ ‬يتأسس بواسطة تراكم الجهود، ابتداء من الرائد الذى وضع أول أسسها، رفاعة الطهطاوى الذى أكمل ما فعله جمال الدين الأفغانى وتلميذه محمد عبده فى ميراث‮ ممتد وتقاليد متتابعة تصل إلى الشيخ شلتوت، وتعبر منه إلى أمثال الدكتور محمود زقزوق وتلامذته إلى اليوم‮. ‬ووصل هذا الخطاب الدينى المستنير إلى اكتماله فى زمن عبد الناصر رغم كل ما‮ ‬يمكن أن‮ يقترن بحكمه من استبداد وقمع معتقلات،‮ ‬نرجو ألا نراها أبدا‮.
‬لكن،‮ نجد ‬فى الناحية المقابلة، الخطاب المعادى الذى لا‮ ‬يفصل بين الدين والدنيا،‮ ‬ويرى فى الخلافة أصلا من أصول الإسلام نفسه‮. ‬ولذلك كانت فجيعة منتجى هذا الخطاب بسقوط الخلافة‮ (‬العثمانية‮) ‬هائلة‮. ‬فحاولوا استعادتها من خلال مفكرين سلفيين،‮ ‬أمثال الشيخ محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار التى أصبحت‮- ‬خصوصا بعد وفاة الإمام محمد عبده‮- ‬صوتا للسلفية الوهابية المتحالفة مع البيت السعودى والمنتسبة إلى ابن تيمية،‮ ‬ولكن بعد أن اصطبغت أرادنه برائحة النفط الذى اكتشف فى السعودية سنة‮ ‬1925‬‮. ‬وفى اتجاه هذا الخطاب السلفى الوهابى،‮ ‬وبعون من السفارة الإنجليزية بالقاهرة،‮ ‬تشكل خطاب‮ ‬يحمل ملامح مشابهة‮، هو الخطاب الدينى لجماعة الإخوان المسلمين التى أسسها حسن البنا فى الإسماعيلية سنة 8291،‮ ‬إيمانا بأن الإسلام دين ودولة، والخلافة هى الأصل فى الحكم،‮ ‬وإعمالا لمبدأ التمييز بين المواطنين،‮ ‬فلا وطن إلا للدين،‮ ‬ولا حاكم إلا للجماعة التى ترى فى نفسها واتباعها الفرقة الناجية من أهل السنة والجماعة، ولم تكن جماعة الإخوان بعيدة عن جماعة ثالثة، تقوم هى الأخرى على وهم أنها الأحق بصفة الفرقة الناجية،‮ ‬وهى المجموعة التى آثرت احتكار مسمى‮ "‬السلفية‮". ‬وهى مجموعات بدأ تشكلها فى القرن التاسع عشر،‮ ‬واستمرت فى تعاقبها محافظة على انتسابها إلى حنابلة القرنين السابع والثامن الهجريين الذين رأت فيهم ما‮ ‬يغلق أبواب الاجتهاد،‮ ‬ويؤكد فضل السلف على الخلف‮ فى كل الأحوال.‬
اللافت للانتباه حقا هو الدور الذى قام به الاستعمار القديم والجديد فى تشجيع الجماعات المعادية للدولة المدنية الحديثة بأحلامها عن الحرية والعدل والكرامة الإنسانية والاستقلال الوطنى‮. ‬أما الاستعمار القديم‮ ممثلا فى إنجلترا فكان وراء تأسيس جماعة الإخوان،‮ ‬وظل مستمرا فى أداء‮ ‬دوره الأسوأ حتى بعد تحرر الأوطان التى كان‮ ‬يحتلها‮. ‬وتفاصيل ذلك فى كتاب حرصت على أن‮ ‬يترجمه المركز القومى للترجمة بعنوان‮ "‬التاريخ السرى لتآمر بريطانيا مع الأصوليين‮"، ‬تأليف مارك كرتس، ‬وترجمة كمال السيد‮. ‬أما الاستعمار الجديد ممثلا فى الولايات المتحدة، فدوره معروف فى استخدام الخطابات الدينية المعادية للدولة المدنية الحديثة‮. ‬والمثل الظاهر للجميع هو الدور الذى لعبته المخابرات الأمريكية فى دعم الأنظمة الرجعية فى باكستان وغيرها،‮ ‬وفى التحالف مع طالبان لطرد الاتحاد السوفيتى من أفغانستان التى عادت إلى الوراء قرونا عديدة مع أكثر آراء ابن تيمية وأمثاله تشددا. ولا يقتصر الدور الأمريكى القبيح على ذلك، فهناك الدور الأمريكى فى دعم وتأسيس القاعدة، وأخيرا فى وصول الإخوان المسلمين إلى حكم مصر،‮ ‬مستغلين سذاجة أعضاء المجلس العسكرى أو حسن طويتهم،‮ ‬وانخداع جماهير مصرية بوعود كاذبة،‮ ‬سرعان ما أحالت الأحلام إلى كابوس وطنى استمر لعام ‮كامل. ‬
ولكن لا‮ ‬ينبغى أن‮ نلقى أسباب كوارث تشكل الخطابات المعادية للدولة المدنية واتساع مداها على الاستعمار القديم أو الجديد أو على بعض الاستخدام السلبى لأموال النفط التى أسىء استغلالها،‮ ‬فهناك العوامل الداخلية دائما،‮ ‬وعلى رأسها الاستبداد فى الحكم الذى تحول- مع السادات- عن حلمه القومى فى مصر بشعاراته المعروفة (حرية،‮ ‬اشتراكية،‮ ‬وحدة‮) ‬إلى كابوس انفتاح اقتصادى وتبعية سياسية، لا تفرز إلا اتباعا فكريا وثقافيا،‮ ‬فأعطت الفرصة للخطابات التكفيرية المعادية للدولة المدنية الحديثة،‮ ‬كى تتحول إلى خطابات انتهى الأمر ببعضها إلى أن أصبح خطابات إرهابية قاتلة‮.‬
............................
وقد كان لهزيمة 1967 أثر تدميرى على الخطاب القومى، خصوصا حين وجدت الخطابات الدينية المقموعة، طوال المرحلة الناصرية، متنفسا مع وصول السادات إلى الحكم، وانقلابه على الخطاب الناصرى بلوازمه الثلاثة: الحرية والاشتراكية والوحدة العربية. وكان من العلامات الأولى لصعود خطاب دينى معاد للخطاب الناصرى تصريح الشيخ محمد متولى الشعراوى بأنه سجد لله شكرا، عندما حدثت هزيمة 1967 التى لم يتحمل عبد الناصر وقعها الكارثى، فمات بعدها بثلاث سنوات، لكن بعد أن حقق معجزتين: الأولى هى إعادة بناء الجيش ووضعه فى وضع الاستعداد الكامل لمعركة التحرير، خصوصا بعد نجاح الجيش المصرى فى معارك الاستنزاف المجيدة. والثانية: هى مواصلة العمل فى بناء السد العالى والانتهاء منه تماما، ومن ثم الاستعداد لافتتاحه رسميا. وقد أعلن ذلك عبد الناصر فيما صار أقرب إلى خطاب الوداع فى يوليو 1970، ولكن جاءت أحداث أيلول (سبتمبر) الأسود فى الأردن، والفتنة التى اشتعلت بين الحكومة الأردنية والمنظمات الفلسطينية بقيادة عرفات، بما عجل بوفاة عبد الناصر فى 28 سبتمبر 1970.
وجاء السادات الذى عينه عبد الناصر نائبا له ليتولى الحكم، وليعمل على المخالفة الجذرية للتوجه الناصرى فتحالف مع الجماعات الإسلامية للقضاء على بقايا الناصريين والقوميين واليساريين الذين عارضوه، معلنا أنه سوف يبنى دولة العلم والإيمان، والعودة إلى أخلاق القرية التى كانت بمثابة محاولة لترتيب علاقات المدينة التى هى الأصل فى معنى الدولة المدنية. وبدأ التحالف مع قوى الإسلام السياسى منذ 1971. واللافت للانتباه أن هذا التحالف أغمض الأعين عن ملاحظة الاحتقان الدينى الذى ترتب على بدايات التمييز ضد الأقباط، وذلك فى سياق عنف بدأ بحرق كنيسة الخانكة فى السادس من نوفمبر 1972. وحتى عندما اتخذ السادات قرار الحرب فى السادس من أكتوبر 1973، وحقق الجيش انتصاره الباهر، أخذ الخطاب الدينى المتحالف مع السادات فى تديين الحرب والانتصار، فتحدث ذلك الخطاب عن الملائكة التى حاربت مع الجنود، بوصفها نفحة من نفحات دولة الإيمان التى استبعد منها معنى العلم، وحدث تديين لكل مأثرة من مآثر التخطيط فى هذه الحرب. وقد تصاعدت نزعات التديين صانعة خطابا أخذ يدعو إلى دولة دينية قادمة، فى موازاة خطوات رسمية لأسلمة القوانين الوضعية، مع الدعوة إلى إحياء أحكام الشريعة الإسلامية دون اعتبار لمتغيرات العصر. وكان ذلك النتيجة الطبيعية الأولى لإطلاق سراح الإخوان المسلمين الذين خلت منهم السجون بنهاية سنة 1974. وعندما خرجوا وجدوا شبابا متأثرا بأفكارهم أنشأ ما أطلق عليه "اسم الجماعة الإسلامية"، خصوصا فى كلية الطب حيث ظهر نشاط عصام العريان وعبد المنعم أبو الفتوح الذى سرعان ما أصبح رئيس اتحاد كلية الطب سنة 1973، ورئيس اتحاد طلاب جامعة القاهرة سنة 1975. وكانت الجماعة الإسلامية نزاعة إلى العنف الذى لم تكن تتردد فى ممارسته على خصومها، ودعما لتشددها الذى اقترن بتحريم الحفلات الفنية فى الجامعات المصرية بالقوة، تحت مسمع وبصر الحرس الجامعى الذى كان مأمورا بالصمت على السلوك المادى المجسّد للخطاب. أعنى الخطاب الذى سرعان ما تحول من كلمات عنف إلى أفعال عنف. وحتى عندما انضمت الجماعة إلى الإخوان المسلمين مجددة شباب الجماعة الخارجة من السجون فإن خطابها الدينى ظل قرين العنف من ناحية، والعداء للدولة المدنية من ناحية موازية.
والحق أن الخطاب الدينى للإخوان كان قد عاد إلى ملامح عنفه القمعى الذى تبناه القطبيون من أتباع سيد قطب الذى دعا إلى الجهاد، وإقامة الخلافة الإسلامية بالقوة فى مجتمع الجاهلية الذى ينتسب إليه كل من ليس إخوانيا. ويقوم الخطاب القطبى على ركائز ثابتة. أولها أن المجتمع المصرى- نموذجا لغيره- هو مجتمع جاهلى لا دين له، ومهما حقق هذا المجتمع من تقدم مادى فإنه يظل جاهليا، كافرا، لأنه يعتدى على سلطة الله فى أرضه، مسلما الحكم لغير الله من طواغيت الظلم والفساد، معتمدين على قوانين وضعية وأنظمة سياسية يحتكم إليها الضالون المضلون، وذلك بدل الإقرار بالحاكمية. وثانيها: الحاكمية ليست تحكيم شريعة الله فحسب، وإنما هى عودة لما يترتب عليها ويتصل بها أو يلزم عنها من عودة إلى ما ترتضيه شريعة الله من أصول وأخلاق واعتقاد واجتماع واقتصاد، ومبادئ حاكمة للنشاط الثقافى والفنى. وثالثها: المجتمعات بعامة والمجتمع المصرى بخاصة بكل مقوماتها الثقافية والحضارية، بل نظامها القضائى والتعليمى، هى مجتمعات جاهلية كافرة لأنها قبلت الاحتكام إلى غير شريعة الله. وأخيرا: لن يزول مجتمع الجاهلية إلا بالانقلاب عليه، واستعادة الحاكمية لله فيه، على نحو يجعل الدولة ملكا لرؤوس الفرقة الناجية.
ولقد لاقت أفكار سيد قطب رواجا بين شباب الإخوان الذين احتوتهم، فتبنوا مبادئ الحاكمية وواجب الجهاد الذى يعنى الحرب على الفئات الكافرة من أبناء الفرق الضالة المضلة. ولقد حاول حسن الهضيبى أن يلجم جموح مبادئ مثل هذا الخطاب التكفيرى، وذلك بكتابه "دعاة لا قضاة". ولكن محاولته باءت بالفشل، فقد شاع التطرف الذى انبنى عليه الخطاب القطبى الذى ساعده على المزيد من الانتشار تحالف عمر التلمسانى (مرشد جماعة الإخوان) مع السادات للقضاء على خصوم السادات من الفرق الضالة المضلة من القوميين والناصريين وغيرهم من الخصوم الذين وضعتهم المجموعات السلفية من حلفاء الإخوان فى سلة "العلمانيين" التى لم يكن معناها يفترق كثيرا عن معنى "الملاحدة"، ولكن كانت ممارسة العنف هى الفارق الأساسى بين المجموعات الإخوانية والمجموعات المتطرفة التى تولدت منها، ولم تجد من يحول بينها وتحويل عنف الخطاب القطبى بروافده المختلفة إلى عنف مادى، تطورت ممارساته الإرهابية إلى أن وصلت إلى ذروة الإرهاب المادى مع جريمة اغتيال السادات الذى أغضب حلفاءه الإسلاميين مع ذهابه إلى إسرائيل ومباحثاتهم معه، على النحو المتصاعد الذى أدى إلى توقيع اتفاقية كامب ديڤيد فى السابع عشر من سبتمبر 1978. وكانت خطوات توقيع هذه الاتفاقية متزامنة مع انقلاب السادات على حلفائه الذين لم تعد لديه حاجة إليهم، خصوصا عندما استبدل تحالفه الجديد مع الولايات المتحدة التى رأى أنها تملك الأوراق الرابحة فى أزمة الشرق الأوسط بتحالفه القديم مع الاتحاد السوفيتى العدو التقليدى للجماعات الإسلامية، بوصفه مصدر الكفر والإلحاد والداعم الأول للعلمانيين الكفار.
وقد اغتيل السادات بناء على فتاوى شيوخ متطرفين من جماعات سلفية أصابتها لعنة العنف المقترن بالتكفير الذى كان يتحول إلى أفعال إرهابية فى الواقع. ولم يكن من المستغرب- والأمر كذلك- أن يعلن خالد الإسلامبولى الذى اغتال السادات- فى التحقيقات- أنه اغتاله لأسباب عدة؛ منها فتاوى علماء سلفيين بتكفير السادات، وإهانته لأمثال هؤلاء العلماء فى آخر خطبه، ومنها الحكم بغير ما أنزل الله، وزيارته لإسرائيل، وإبرامه معاهدة سلام وصفتها الجماعة الإسلامية بأنها ردة وخيانة للقضية الفلسطينية والأرض المصرية المحتلة. وقد اعتبرت الجماعات الإسلامية المتطرفة خالد الإسلامبولى بطلا وشهيدا، وتسمت تنظيمات إرهابية باسمه. ومن الدول السباقة فى تكريم خالد الإسلامبولى إيران. والمؤكد أن قيام الثورة الإيرانية وتأسيس الجمهورية الإسلامية فى إيران سنة 1979 قد أعطى دعما للجماعات الإسلامية المتصارعة فى مصر، وانتشار خطابها الذى لا يخرج عن كونه تنويعات على الخطاب القطبى التكفيرى، قد تكون بعض هذه التنويعات أكثر حدة أو تخلفا، لكنها لا تختلف جذريا فى منحى العنف الذى يحيل الكلمات إلى أفعال قمع أو قتل أو حرق للكنائس على وجه التحديد. وقد كان لإسقاط شاه إيران وقيام الجمهورية الإسلامية التى لم تغفر للسادات إيواءه لشاه إيران الذى دفنه السادات بما يليق به من تكريم فى مسجد الرفاعى إلى جانب ملوك مصر، أن قامت هذه الجمهورية الإسلامية بإطلاق اسم خالد الإسلامبولى على أحد شوارع طهران. وبقى الشارع بهذه التسمية إلى سنة 2004، حيث تحول اسم الشارع إلى "شارع الانتفاضة" الذى لم يبعد كثيرا عن معنى التسمية الأولى.
والمؤكد أن إنشاء الجمهورية الإسلامية فى إيران- إبريل 1979- كان له أثره الذى انعكس على الخطابات الدينية المتصارعة فى مصر، وذلك على مستويين: المستوى الأول مدنى، يرتبط بتحول بعض المثقفين الذين اقتربوا من اليسار، لكن دون أن ينسوا أصولهم الإخوانية، إلى ما أطلقوا عليه اسم اليسار الإسلامى، كما فعل حسن حنفى، مقتديا بالمفكر الإيرانى على شريعتى (1933-1977) ومستفيدا من أفكار "لاهوت التحرير" فى أمريكا اللاتينية. أما المستوى الثانى والأهم فهو الدعم غير المباشر لشيوع الخطابات الدينية الإسلامية التى أخذ حضورها يقترن بالعنف الذى تحول إلى قمع المثقفين المصريين الذين وجدوا أنفسهم- بالضرورة- فى صف الدفاع عن الدولة المدنية وتحديثها والوقوف ضد المعادين لها من دعاة "الدولة الدينية" التى تنطوى بالضرورة على التمييز والقمع وإلغاء معنى الوطن والمواطنة. وكان على هؤلاء المثقفين من أنصار الدولة المدنية أن يدفعوا الثمن غاليا فى زمن مبارك الذى انحرف به الفساد والاستبداد إلى التحالف مع الإخوان المسلمين والسلفيين، على نحو جعل المثقف المدافع عن الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة واقعا بين سندان استبداد الدولة وفسادها من ناحية، ومطرقة الجماعات الإسلامية المتطرفة ودمويتها من ناحية موازية.
وكان على المعارضين لتديين الدولة أن يدفعوا الثمن غاليا ليكونوا عبرة لغيرهم. هكذا تم اغتيال رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب فى الثانى عشر من أكتوبر سنة 1990، بسبب قراره تأجيل مناقشة تطبيق الشريعة الإسلامية إلى أجل غير مسمى. ومن الطريف والدال معا أن يصدر محمد مرسى الرئيس الإخوانى قرارا بتعيين صفوت عبد الغنى- أحد المتهمين من جماعة الجهاد باغتيال المحجوب- عضوا فى مجلس الشورى، وهو أمر يدل على العلاقة العضوية التى ربطت جماعة الإخوان المسلمين بالمجموعات المتطرفة والإرهابية من جماعات الإسلام السياسى. ويأتى فى القائمة– بعد رفعت المحجوب القانونى الجليل- فرج فودة داعية الدولة المدنية الذى أهدروا دمه بعد مناظرته الشهيرة والمدوية مع الشيخ محمد الغزالى، وذلك فى ندوة جرت وقائعها فى معرض الكتاب سنة 1992. وقد شارك فيها عن الجانب الإسلامى الشيخ محمد الغزالى والمستشار محمد مأمون الهضيبى والدكتور محمد عمارة، وعن جانب المدافعين عن الدولة المدنية محمد خلف الله أحمد والدكتور فرج فودة. وقد أفتى محمد الغزالى بكفر خصمه الذى دافع عن الدولة المدنية دفاعا قويا، فكانت النتيجة اغتيال فرج فودة فى الثامن من يونيو سنة 1992. وكذلك تأتى محاولة اغتيال نجيب محفوظ دالة بعد حصوله على جائزة نوبل سنة 1988 وإشارة حيثيات منح الجائزة إلى روايته "أولاد حارتنا"، فكانت النتيجة أن كلفت الجماعة الإسلامية عددا من أعضائها باغتيال الروائى العالمى فى أكتوبر 1994، ولكن إرادة الله شاءت نجاة نجيب محفوظ من المحاولة. لكن كانت المحاولة نفسها دليلا على الجرائم الإرهابية لجماعات الإسلام السياسى المتطرفة. أما عن الجرائم الإرهابية التى وقعت على الأبرياء وسفكت دماءهم، فيكفى الإشارة إلى مذبحة الأقصر فى نوفمبر 1997 التى راح ضحيتها سائحون أبرياء فى جريمة وحشية، كان الهدف منها إيقاع الرعب فى القلوب.
ولم تكن الجرائم الإرهابية بسبب نزوع الخطاب الدينى إلى العنف الذى يحيل الكلمات إلى رصاصات وقنابل ظاهرة جديدة تماما، فقد سبق أن دفع تطرف الخطاب الدينى المقترن بالعنف جماعة الإخوان المسلمين إلى اغتيال القاضى الخازندار فى الثانى والعشرين من مارس سنة 1948، ومحمود فهمى النقراشى رئيس وزراء مصر فى الثامن من ديسمبر من العام نفسه، بسبب قراره حل جماعة الإخوان المسلمين. والحق أن التاريخ الإرهابى للتنظيم السرى للإخوان المسلمين هو الرحم الذى تولدت منه كل الجماعات الإرهابية الملازمة لعنف الخطابات الدينية المتصارعة فى مصر. وهو عنف يتولد طبيعيا من إيمان كل جماعة منتجة للخطاب الدينى أنها وحدها الفرقة الناجية، ومن خالفها فهو من الفرق الضالة المضلة. وبقدر ما يؤدى هذا الإيمان إلى الاستعلاء. ومن ثم النظرة المزدرية للفرق والمجموعات المخالفة أو المختلفة، فإن رفض الاختلاف نفسه يؤدى إلى خصائص إقصائية، تؤدى إلى استبعاد المختلف بالعنف.
وليس من الغريب أن يقترن عنف الخطابات الدينية الميالة إلى العنف بنزعة تقليدية مغالية، تنتسب إلى التيارات المعادية للعقل، وللنزعات العقلانية فى الميراث الإسلامى. أعنى التيارات التى يمثلها المعتزلة الأشاعرة- إلى حد ما- فى الخطابات التى أنتجها "المتكلمون" فى الفكر الإسلامى، والتى يمثلها الفلاسفة المسلمون، ابتداء من الكندى، مرورا بالفارابى وابن سينا، وانتهاء بابن طفيل وابن باجة وابن رشد صاحب "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال". فهذه التيارات العقلانية ظلت هدفا لاضطهاد الجماعات السلفية التى لم تتردد فى حرق كتب الفلسفة وعلم الكلام فى ميادين العالم الإسلامى.
والحق أن الخطاب الدينى الأزهرى بدأ صحوته فى العصر الحديث مع رفاعة الطهطاوى الذى حمل كلامه عن باريس وعن الثورة الفرنسية نزعة اعتزالية تنسرب فى "تخليص الإبريز" و"مناهج الألباب" و"المرشد الأمين" كأنها نغمة خلفية لا تتوقف عن لفت الانتباه إليها. وتتأسس هذه النزعة مع محمد عبده فى خطاب أرى أنه لا يزال الخطاب المستنير للأزهر. وتقوم العناصر الإسلامية لهذا الخطاب على أن للإسلام أصولاً خمسة. أولها: النظر العقلى لتحصيل الإيمان، فقد خلق الله فينا العقل لندرك وجوده به من حيث التأمل فى مخلوقاته، فالعقل هو حجة الله على خلقه، وهو أصل الإثابة والعقاب، وهو المائز بين الإنسان والحيوان، وهو أداة التحسين والتقبيح التى نعرف بها الشر فنجتنبه، والخير فنقبل عليه. والأصل الثانى هو تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض، وهو ما يجعلنا ندرك أن الله لا يوصف بصفات خلقه، فهو "ليس كمثله شىء". وقس على ذلك كل ما هو من جنسه أو فرع منه. والأصل الثالث: البعد عن التكفير، فليس لمسلم أن يكفر مسلما، فمن كفر مسلما فقد باء بها ووقع فى ذنب عظيم، فلا يعلم ما فى قلوب الناس إلا الله، والله لا يمنح هذا العلم إلا لأنبيائه وليس لبشر يدعون الوصاية على غيرهم باسمه، أو يحتكرون "الحاكمية" بالنيابة عنه. وليس للمسلم على المسلم إلا حسن الظن به، ولذلك نسب إلى الإمام مالك قوله: "من صدر عنه ما يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجها، ويحتمل الإيمان من وجه، حمل أمره على الإيمان". ولهذا يظهر التواضع فى أقوال الأئمة: "رأيى صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب". أما الأصل الرابع: فهو الاعتبار بسنن الله فى الخلق، وكيف أن معجزاته تظهر حتى فى أدق مخلوقاته، وتمتد ما بين الثرى والثريا. والأصل الخامس: أن الإسلام هدم بناء السلطة الدينية ومحا أثرها، حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم، فالإسلام لم يدع لأحد بعد الله ورسوله سلطانا على عقيدة أحد ولا سيطرة على إيمانه، وأن الرسول- صلى الله عليه وسلم- كان مبلغا ومذكرا لا مهيمنا ولا مسيطرا، ولم يجعل لأحد من أهله سلطة أن يحل ولا أن يربط فى الأرض ولا فى السماء. ولهذا الأصل لوازم عديدة. أولها: أن الإسلام لا يعرف الدولة الدينية، وإنما يعرف الدولة المدنية. وثانيها: أن الإسلام لم يحدد للمسلمين نظاما فى الحكم، وإنما تركه لاجتهادهم وتجاربهم التى تصلح لدنياهم، ولا تتعارض مع دينهم الذى فتح لهم أبواب الاجتهاد فى حكم أنفسهم على مصراعيه، فهم أدرى بشؤون دنياهم، حسب تغير أحوالهم وأوضاع العالم حولهم. وأخيرا، فإن مجمل هذه الأصول تدعو المسلم إلى التوازن فى حياته بين العقل بمنطقه، والشعور بوجدانه، والروح فى صفاء نقائها وتساميها الصوفى. هذا التوازن يعنى الصلة الوثيقة بين العقل بصفاء عنصره والعلم بتقدم كشوفه ومخترعاته، كما يعنى التجاوب بين المنطق العقلى والفنون الجميلة التى هى امتداد للاعتبار بسنن الله فى خلقه.
هذه الأصول الأساسية لخطاب إسلامى مستنير، أسهم فى صياغتها مشايخ أجلاء للأزهر، يبدأون من حسن العطار إلى تلميذه رفاعة الطهطاوى، ومنهما إلى الشيخ محمد عبده وتلميذيه على ومصطفى عبد الرازق، ومنهما إلى الشيخ محمود شلتوت وتلامذته، إلى الدكتور محمود زقزوق والمرحوم عبد المعطى بيومى صاحب كتاب "الإسلام والدولة المدنية" والختام الطيب للإمام أحمد الطيب شيخ الأزهر الحالى.
هذا الخطاب الأزهرى ظل شائعا فى مصر إلى أن زاحمته خطابات دينية محملة بعنف خطابات محمولة على أعاصير غبار صحراوية، ومسنودة بدعم استعمارى منذ سقوط الخلافة العثمانية، وتطلع الملك عبد العزيز بن آل سعود إلى وراثة الخلافة بدعم من الشيخ محمد رشيد رضا الذى فتح مجلته "المنار" لتكون حائط صد لمواجهة تيار الحداثة والتحديث الذى زاده افتتاح الجامعة المصرية قوة. وإذا كان هذا التيار صعد فى الزمن الناصرى، فإنه انكسر مع هزيمة 1967 وما أعقبها من تحالف ساداتى إخوانى، تولد عنه تفرع فرق وتيارات وخطابات للإسلام السياسى التى زادتها قوة قيام الجمهورية الإسلامية فى إيران، وذلك فى مسار من التحالف بين هذه التيارات وكل من بريطانيا والولايات المتحدة، إلى أن وصلنا إلى كارثة حلم الإخوان والصعود المخيف لخطابات دينية إقصائية، تتسم بالعنف وجاهزة للتحريض.
ومواجهة خطابات العنف المتمسحة بالدين لا يمكن مواجهتها إلا بالفكر وجبهة ثقافية وطنية مؤتلفة، شعاراتها الاستنارة والدولة المدنية الديمقراطية الحديثة بأطرها المرجعية المتمثلة فى مبادئ الحرية بكل أبعادها، والعدالة الاجتماعية والمعرفية، والكرامة الإنسانية، والاستقلال الوطنى. ولن تكتمل هذه المواجهة إلا بحضور الأزهر بوصفه منارة للاستنارة الدينية، وحارسا للخطاب الدينى المتجدد رحب الأفق، لكن لن يقوم الأزهر بهذا الدور الحيوى والحتمى بالفاعلية المطلوبة إلا بعد أن يضع فى اعتباره الملاحظات التالية. وكلها من منطلق الإيمان بدوره العظيم ميراثا مؤسسا وحاضرا مقاوما ومستقبلا واعدا وأكثر فاعلية:
استعادة قدرته على إشاعة خطاب دينى مستنير. من خلال الحوار الدائم بين علمائه ومثقفى الدولة المدنية المؤمنين بحرية الفكر وحق الاختلاف والحلم بمستقبل، طريقه الأسرع هو التوافق الوطنى.
تأكيد حياده السياسى، واحتضانه لكل القوى السياسية المدنية، والبعد عن الوظائف السياسية أو الحزبية للدولة، وذلك تأكيدا لإعادة الاعتبار للمشيخة التى يجب أن تسمو وتعلو فوق كل القوى السياسية والمصالح الحزبية وغوايات المناصب الحكومية إلا ما تقتضيه المصلحة الوطنية.
الوقوف بوضوح ضد أى محاولة لتديين الدولة، أو حشر الدين فيما هو من شؤون دنيانا.
إعادة توسيع مساحات الاجتهاد، فيما أسماه بعض علماء الأزهر "فقه المستحدثات" المتصل بما لم ترد فيه نصوص قرآنية أو أحاديث نبوية، ويتصل بمخترعات عالمنا المعاصر وآفاقه، ابتداء من نقل الأعضاء البشرية وبنوكها، مرورا بمستحدثات العولمة الاتصالية، وانتهاء بالإبداعات الخاصة بالفنون: ابتداء من الموسيقى والأوبرا والباليه والنحت، وانتهاء بالسينما والمسرح، خصوصا الأفلام التى تتخذ الأديان موضوعا لها.
التطوير الشامل والجذرى للبرامج الدراسية الموجودة حاليا، والتى لا يزال يدرسها طلاب الأزهر، وفيها ما دفع عدد من هؤلاء إلى التأخون أو الارتماء فى حبائل الشباك السلفية المتشددة، فانتهى الأمر إلى تحول عدد كبير منهم إلى تبنى خطابات دينية إقصائية، وهذا أول الإرهاب الدينى. ولا يعقل أن توجد كتب للفقه حتى اليوم تقول للطلاب إن فترة حمل المرأة قد تطول إلى أربع سنوات. أو أن نعامل وزيرات فى الدولة أو رئيسة حزب أو رئيسة مجلس قومى للمرأة حسب آراء ابن تيمية وأمثاله، فكل الأحكام الفقهية الخاصة بالمرأة لابد من تعديلها أو تغييرها لكى يقبلها العصر والتطور الحضارى.
القضاء على الطائفية الدينية، وتأكيد أنه لا فارق بين مسلم سنى ومسلم شيعى أو مسلم أباضى، فالكل عند الله مسلمون. ولقد جاوزنا زمن التفرقة بين الناس على أساس المذهب أو الطائفة، فهى تفرقة لا تولد إلا الدمار الذى شهدته لبنان وتشهده العراق، ودخلنا زمن المواطنة التى لا تمييز فيها بين المواطنين على أساس من جنس أو دين أو طائفة أو مذهب أو حتى ثروة.
لمزيد من مقالات جابر عصفور


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.