مع توارد الأخبار عن تدهور الأوضاع فى العراق وتوالى سقوط مدنه أمام تقدم مقاتلى «داعش» الارهابية، قال الرئيس الأمريكى باراك أوباما إن الولاياتالمتحدة لن تقوم بارسال قوات الى العراق. وأشار أيضا الى أن الادارة تراقب بقلق وحذر ما يحدث فى العراق، وما قد يمتد الى ما وراء حدود العراق. كما أن الادارة تدرس كافة الاحتمالات والخطوات التى يمكن اتخاذها لاحتواء خطر «داعش» والحد من انتشارها.ولم يتردد أغلب المراقبين فى القول بأن ما يحدث فى العراق له تبعات وعواقب على كل دول المنطقة خاصة تلك المجاورة للعراق. وأن ايران تحديدا من المنتظر أن تكون لها دور بجانب تركيا فى مواجهة «واقع جديد» قد تتحدد ملامحه خلال الأيام والأسابيع المقبلة. واذا كانت الضربات الجوية قد تم الاشارة اليها كاحدى الوسائل الضرورية والملحة لوقف تدهور الموقف فإن كثيرا من الخبراء العسكريين أبدوا تحفظهم تجاه نتائج القيام بالقصف الجوى على أساس أن هذه الضربات اذا تمت وحتى لو كان لها دور فى «وقف ما يحدث» فإنها «قد لا تغير الا قليلا» مما يدور فى المشهد العراقى. ولا شك أن الدهشة سيطرت على المراقبين وهم يسمعون وسط هذه الفوضى التى خلقت فى العراق مطالبة أوباما فى تصريحاته يوم الجمعة الماضئ الحكومة العراقية ورئيس وزرائها نورى المالكى باصلاحات سياسية فى حكم البلاد!! أكثر من خبير بالشأن الخارجى ذكر أن الأمر المحير فى القضية المثارة حاليا ومنذ فترة ليست بقريبة هو أن الادارة الأمريكية كانت تظن أو تعتقد بأنها يمكن أن تعتمد على المالكى لانقاذ العراق أو ما يمكن انقاذه فى العراق. خاصة أن المالكى (فى رأى هؤلاء الخبراء) ليس فقط غير قادر بل أيضا غير راغب على فعل ذلك، ولذلك ربما يمكن القول إن الادارة خدعت نفسها بأن ما كانت تتصوره وما كنت تتوهمه كان سرابا ورهانا خاسرا على المالكى بطائفيته وأيدولوجيته وعليها الآن أن تدفع ثمن ذاك الوهم وتلك السياسة!!. كما أن أكثر من معلق سياسى ومتابع للانخراط أو «الورطة الأمريكية فى العراق» وهو يحلل الموقف الحالى ذكر وهو يسترجع التاريخ اسم «بول بريمر» باعتباره المسئول الأمريكى الأول عقب الغزو الأمريكى للعراق وهو كان الداعى والمؤيد والداعم لتفكيك الدولة والجيش فى العراق و»تطهيره» كما قيل وقتها من البعثيين ورجال صدام والسنيين. وبالتالى تسليم البلاد للشيعة الأغلبية ورجالهم وأيدولوجيتهم وأغلبيتهم.. وكان ما كان. وبالطبع جاء أيضا فى مجال تفسير استفحال الموقف ذكر اسم سوريا وكيف أن الادارة الأمريكية فى رأيهم «تقاعست» عن «تزويد المعارضة المعتدلة فى سوريا بالأسلحة القادرة على مواجهة النظام السوري»، ومع مرور الأيام تقلصت قدرة المعتدلين على الصمود وتزايد نفوذ المتطرفين و»داعش»..فوصلت الأوضاع و»خريطة توازنات القوى» فى العراق وبلاد الشام الى ما نراه اليوم. وجدير بالذكر فى هذا الصدد أن حرب العراق أو عملية غزو العراق واحتلاله على مدى السنوات الماضية قد كلفت الولاياتالمتحدة نحو 1.7 تريليون دولار. وقد تم صرف نحو 25 مليار دولار لتسليح الجيش العراقى وتدريب أفراده.وبلغ عدد القتلى من الأمريكيين فى حرب العراق 4424 قتيلا بجانب عشرات الآلاف من الجرحى.وقد أعرب عديد من المعلقين العسكريين مؤخرا عن «صدمتهم» و»ذهولهم» تجاه ما حدث من انتشار سريع وواسع لميليشيات «داعش» وسقوط متتال للمدن العراقية الكبرى بدءا من الموصل.والأخطر أن هذا التراجع أو الهروب الذى حدث للقوات العراقية (والتى يقدر عددها بأكثر من 200 ألف) تم أمام زحف وانتشار «داعش» بأفراد لا يزيد عددهم على أربعة آلاف مقاتل!! وفى الجدل الدائر حول ما حدث وما يمكن فعله كتب نيكولاس كريستوف الكاتب الشهير فى صحيفة «نيويورك تايمز»: «بينما يدور الجدل فى الولاياتالمتحدة حول ما يجب فعله، دعونا نتذكر دور المالكى المركزى فى كل هذا. صقور أمريكا ( وهو يقصد غلاة المتشددين) على حق بأن العراق يمكن أن يصبح كارثة.ويمكن أن نرى اقامة خلافة ارهابية وعدد ضخم من القتلى وصعود فى أسعار البترول وارهاب عالمى أكثر» ثم يقول كريستوف:» فى هذا الاطار يفضل الصقور الضربات الجوية الأمريكية. ولكن مثل هذه الضربات تخلق أيضا مخاطر خصوصا اذا كانت المعلومات الاستخبارتية التى لدينا بشأن تلك الأهداف قديمة أصابها الصدأ. وقد تكون الضربات الجوية ضرورية فى ابطاء تحركات «داعش» الا أنها غير كافية»». ويختتم الكاتب الشهير مقاله ذكرا: «أما الخطوة الحاسمة أو المصيرية والتى يجب أن نضغط بشأنها دبلوماسيا من أجل محاولة تحقيقها هى أن يأخذ المالكى خطوة الى الوراء ويشاطر السلطة مع «السنة» مع قبوله بلا مركزية الحكومة. اذا فعل المالكى كل ذلك قد يكون ممكنا انقاذ العراق.ولكن بدون فعل ذلك فان الضربات الجوية ستكون مزيدا من الفاقد فى أرض أهدرنا فيها بالفعل أكثر مما ينبغي». أما ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية فقرأ ما يحدث حاليا من خلال منظور أوسع وأشمل ذاكرا أن مانشهده «نشوء الشرق الأوسط الجديد» مضيفا بأن ما يمكن القول أيضا أن «الشرق الأوسط القديم قد زال». وانتهز رئيس لجنة الخدمات العسكرية بمجلس النواب هوارد ماكيون (جمهورى من ولاية كاليفورنيا) الضجة المثارة حول ادارة أوباما ليقول بأن الرئيس أوباما فى حاجة الى استراتيجية أكبر وأشمل لاحتواء الخطر فى المنطقة ذاكرا:» لا توجد حلول عاجلة لهذه الأزمة، وأنا لن أؤيد ضربة واحدة تبدو جيدة أمام الكاميرات ولكن ليس لها أى تأثير فعال ومستمر».وهو أيضا مثل القيادى الجمهورى السناتور جون ماكين طالب باقصاء فريق الأمن القومى لاخفاقهم فى التعامل مع الأزمات الدولية واحتوائها ومعالجتها بدبلوماسية و»شراكات دولية» ولا شك أن تفجر الموقف فى العراق له عواقب وتداعيات .. وأخطار لا يعرف مداها أحد. وواشنطن تحاول أن تتعامل مع كل هذه الملفات الساخنة والمقلقة والشائكة معا!
تورجوت اوزال، الزعيم التركى البارز فى مسيرة الجمهورية منذ إنطلاقها قبل تسعين عاما، ورغم مرور عقدين على وفاته فإنه مازال يحتل مكانة أثيرة، لدى الاتراك الذين دائما يتذكرون حلمه الذى لم يتحقق، وهو المزج بين كمالية ناهضة، وتراث عثمانى تليد يلم شمل الاقارب أرضا وناسا فى بلدان جوار خصوصا العراق. والآن لعلهم يتساءلون بعد أن ارتسمت على وجوههم علامات استفهام عديدة تبحث عن إجابة لا تبدو حاضرة: ترى ماذا لو عاد ورأى الموصل التى كان يراها قد سلبت من بلاده نتيجة مساومات مخجلة فى ثلاثينيات القرن المنصرم، تدوسها أقدام الارهاب، لتحتلها، أو هكذا قيل، وليت ذلك فحسب بل تأخذ بعض مواطنيه وعددهم مائة رهينة، بهم تعيد جانب من الماضى البعيد، ومتوعدة برسم خريطة إقليمية جديدة، وفى نفس الوقت تأخذهم ذريعة، توطئة لحصولها على مغانم ومعها تنازلات، ولم لا وقد اصبحت قوة إنسحبت من امامها الشرطة والجيش العراقيين معا، وربما قام الاثنان بتسهيل مهمتها. ولأن اجتياح داعش الرهيب كان مفاجئا مباغتا، هنا استقيظت أنقرة بنخبتها الحاكمة على حيرة ما بعدها، وعبء إضافى لم تكن تنتظره، وبالتالى ليست على استعداد لمواجهته، وأخيرا سؤال ما العمل ؟ ومرد ذلك، أنه جاء فى أجواء سياسية داخلية هى أصلا مرتبكة، ورغم فوزه فى الانتخابات المحلية التى جرت فى الثلاثين من مارس الماضى، فإن العدالة والتنمية الحاكم حتى الآن لم يتمكن من قطف ثمار هذا الانتصار الذى هو فى الحقيقة بطعم الخسارة بعدما تبين حدوث إنتهاكات وعمليات تزوير فاضحة . فطوال الشهرين الماضيين، وما أن يخرج من إنتكاسة ويحاول ان يلتقط أنفاسه، إلا ويجد أمامه أخرى متربصة لها بالمرصاد ، فى مقابل ذلك مظاهرات احتجاجية مناوئة له شملت جميع المدن والقرى بعموم البلاد حتى تلك التى اقتنص بلدياتها، كاشفة عن احتقان يرتهن اللحظة كى ينفجر، والدليل على ذلك ما كشفه حادث رمزى ومعنوى أكثر منه شىء آخر، تمثل فى قيام مواطن كردى بإنزال «العلم» عنوة من ساريته أمام مقر للجيش فى ديار بكر فى الجنوب الشرقى، احتجاجا على مقتل اثنين من أقرانه فى مواجهات ضد الأمن فى بلدة ليجة الواقعة جنوب شرق تركيا . وكان هذا كفيلا بهبة غضب لم تنطفئ بعد لقطاعات عريضة من أبناء الاناضول الذين هبوا مستنكرين إهانة رمز أمتهم الموحدة ، وهذا فى حد ذاته يحمل مغزى شديد الدلالة، إذ أنه رد غير مباشر على سعى رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان تفتيت تركيا تحت بند الانفتاح على القضية الكردية. الأكثر إثارة أن الاكراد أنفسهم استغلوا زحف داعش، ليشنوا هجوما كاسحا ضد الحكومة متهمين إياها بالتواطؤ مع هذا التنظيم، وها هو أحمد تورك رئيس بلدية ماردين عن حزب الشعوب الديمقراطية الذارع السياسية لمنظمة حزب العمال الكردستانى الانفصالية وتقنطها غالبية كردية، يرفع الغطاء عن تحركات لعناصر ما يطلقون على أنفسهم دولة العراق والشام الاسلامية داخل البلاد وعبورهم بحرية للحدود التركية السورية، كل هذا تم بعلم العدالة والتنمية حتى وقت قريب. ثم مضى قائلا فى تصريحات نشرتها صحيفة «ميلليت» أمس الأول، ان اردوغان لا يرغب فى زيادة قوة اكراد سوريا ولهذا قدم الدعم اللوجتسى لداعش، ووصف تورك الحكومة بأنها غير مخلصة فيما تروجه من مزاعم لحل المعضلة الكردية، ودلل على ذلك تعاونها مع الارهابيين المعادين للاكراد ليس ذلك فحسب بل السماح للمستشفيات التركية فى ماردين بإستقبال مصابيهم للعلاج والجميع يعلمون ذلك. ولأنها آلت على نفسها دون أن يطلب منها ذلك الدفاع عن السنة فى مواجهة تنامى التشيع، فطبيعى أن ترفض العاصمة انقرة هذه الإدعاءات جملة وتفصيلا، مشددة على أن الحاصل فى الجوار العراقى ما هو إلا انعكاس لإخفاق نورى المالكى وتعمده إقصاء السنة ورفضه الاستماع إلى النصائح التى وجهت له وهو ما ادى إلى تنامى التيارات المتشددة ، فضلا على ذلك فراغ السلطة فى عدد من الاقاليم العراقية واخيرا استمرار بشار الاسد فى سدة الحكم. أيا كان الأمر بات هناك واقع لا مفر من التعامل معه، فالاسد لا يبدو أنه ذاهب كما أعتقده الساسة الاتراك، ولأنهم ليسوا فى وضعية تسمح بعمل عسكرى فلا مناص أذن من وضع استراتيجيات جديدة للحيلولة دون تغول القاعدة وامتداداتها المسلحة على المناطق الحدودية الجنوبية، وهذا لن يتأتى إلا من خلال الاكراد سواء فى داخل تركيا أو خارجها. غير أن المثير للدهشة أن ينطلق هذا الاقتراح من قوى ليست على وئام مع اردوغان وحزبه بل وتتحفظ على اى خطط لحكم ذاتى للأكراد وتفسير ذلك ببساطة هو ان الأخير ربما يكون أهون بكثير من دولة سلفية على تخوم جمهورية مصطفى كمال اتاتورك، وهكذا فلا غضاضة البتة من التعاون مع اكراد سوريا مثلما هو حادث مع إقليم كردستان فى اربيل . ووفقا لما قالته مصادر إعلامية، فرفع علم التنظيم الأسود على مدينة الموصل كشف الخطأ الاستراتيجى التى وقعت فيه حكومة العدالة والتنمية فلو استمعت واتخذت خطوات نحو تشكيل تحالف استراتيجى مع الأكراد فى المنطقة كما ورد بخطاب عبد الله اوجلان فى عيد نوروز الماضى لما جرؤ اعضاء منظمة داعش على احتلال الموصل. لكن هذا السيناريو المفترض محفوف بالمخاطر، فعمق البلاد القومى قد يأبى ذلك وثمة شواهد تؤكده تتمثل فى التناحر بين القوميين وانصارهم وهم كثروا وما يصفونه بالانفصاليين، ومشاجراتهم اصبحت شبه يومية وتتصدر الميديا مقروءة ومرئية ، وبالتالى قد لا يصبح التحالف هو الخيار الأفضل لمواجهة داعش.. فما هى البدائل أذن ؟