يُعد غياب دور مؤثر وفعال للأحزاب السياسية من أبرز ملامح الانتخابات الرئاسية الأخيرة. وإذا كان التحول الديمقراطى أحد الأهداف التى يتمنى المصريون تحقيقها خلال المستقبل، فإن ذلك لن يتحقق إلا بتوفير شروط عديدة من أهمهاتنشيط الحياة الحزبية. وبالطبع فإن ذلك يجب أن يأتى فى سياق تحقيق الأمن، وإعادة الاعتبار لهيبة الدولة وسيادة القانون، حيث إنه لا يمكن تحقيق تقدم على طريق التنمية أوالديمقراطية فى ظل مناخ تسوده الفوضى والانفلات الأمنى وعدم الاستقرارالسياسي. وبالنظر إلى الانتخابات الرئاسية، يُلاحظ أن أياً من الأحزاب المصرية بما فى ذلك الأحزاب القديمة، لم يستطع أن يقدم مرشحاً فى الانتخابات. كما لم تستطع أية مجموعة من الأحزاب أن تنسق فيما بينها بحيث تتوافق على مرشح يمثلها. وإذا كانت هناك أحزاب أيدت السيسي، وأخرى أيدت صباحي، وثالثة دعت إلى مقاطعة الانتخابات، فإن تأثيرها فى كل الأحوال محدود. فالفوز الساحق الذى حققه السيسى لم يكن مرده أصوات أعضاء الأحزاب التى أيدته، أو بسبب حشدها له خلال الانتخابات، كما أن خسارة صباحى تؤكد أن الأحزاب التى ساندته لم يكن لها أى تأثير يُذكر. وجاءت نسبة المشاركة فى الانتخابات لتمثل خير رد على الأحزاب التى دعت لمقاطعتها. وفى ضوء ما سبق، فقد بات من المهم البحث فى سبل ومتطلبات تفعيل الحياة الحزبية فى مصر، وتنشيط دور الأحزاب لاسيما وأنها تقوم بدور مهم فى عملية التحول الديمقراطي. فالأحزاب القوية القادرة على المنافسة السياسية هي التى تحول مبدأ التداول السلمى للسلطة إلى واقع عملي. كما أن الأحزاب تقوم بدور مهم فى عملية التثقيف السياسى للمواطنين من خلال عمليات التنشئة التى تقوم بها، والمؤتمرات الحزبية التى تنظمها، والدعاية التى تمارسها خلال الاستحقاقات الانتخابية، ناهيك عن دورها فى تربية وإعداد الكوادر السياسية التى تكون قادرة على تولى مسئوليات تنفيذية وتشريعية. كما تقوم أحزاب المعارضة بدور مهم فى الرقابة على أداء السلطة سواء من داخل البرلمان أو من خارجه. ونظراً لأن مصر سوف تشهد خلال المستقبل القريب انتخابات تشريعية استكمالاً لخريطة المستقبل التى تم الإعلان عنها فى 30 يونيو 2013، ونظراً لأن البرلمان القادم يقع على عاتقه مسئولية كبيرة فى إصدار التشريعات اللازمة لوضع الدستور الجديد موضع التطبيق، ومراقبة السلطة التنفيذية على النحو الذى يقطع مع الماضي، ويؤسس لنمط جديد من العلاقة بين سلطتى التشريع والتنفيذ، فإنه من المهم أن تقوم الأحزاب بمسئولياتها بهذا الشأن. وتعانى الأحزاب السياسية القائمة بدرجات متفاوتة وأشكال مختلفة من سلبيات عديدة، منها: التشرذم والانقسام، حيث يوجد فى مصر الآن أكثر من 90 حزبا، أغلبها غير معروف للسواد الأعظم من المصريين، وهى أقرب ما تكون إلى الدكاكين الحزبية منها إلى الأحزاب بالمعنى المعروف. كما يعانى كثير من هذه الأحزاب من عدم تبلور رؤاها الفكرية والسياسية، وعدم وجود تمايزات حقيقية بين الكثير منها، فضلاً عن ضعف برامجها، ومحدودية مواردها المالية، وكثرة الصراعات والانشقاقات داخلها، وذلك بسبب عدم التزامها بتطبيق الديمقراطية فى اختيار قياداتها وإدارة شئونها الداخلية، وهو ما يكشف عن ضعف التزام النخب السياسية القائمة على هذه الأحزاب بقيم ومبادئ الديمقراطية. كما أن قدرة هذه الأحزاب على التنسيق فيما بينها من أجل زيادة فاعليتها وتأثيرها محدودة فى أفضل الأحوال، وهناك العديد من الشواهد بهذا الخصوص. وثمة عدة متطلبات لتنشيط الحياة الحزبية فى مصر. أول هذه المتطلبات، هو التطبيق الصارم للنص الدستورى الذى يقضى بعدم تأسيس أحزاب سياسية على أسس دينية. ففى ظل حالة السيولة السياسية التى شهدتها البلاد عقب ثورة 25 يناير، ظهرت أحزاب إسلامية أو بمرجعيات إسلامية عديدة. ولذلك فإنه من المهم جداً أن يتم وضع معايير قانونية واضحة لتعريف الحزب الديني، بحيث يتم حل الأحزاب التى لا تتوافق مع هذه المعايير، أو يطلب منها تكييف أوضاعها خلال فترة زمنية محددة. ويتمثل المتطلب الثانى فى الاندماج الحزبى وتشكيل كيانات حزبية أكبر، حيث يمكن للأحزاب التى تجمعها توجهات فكرية وسياسية متقاربة أن تندمج وتشكل كيانات أكبر وأقوي، مما يعزز من حضورها السياسي. كما يمكن للأحزاب المتقاربة فكريا وسياسيا أن تشكل تحالفات انتخابية تمكنها من الحصول على تمثيل أفضل فى البرلمان القادم. أما المتطلب الثالث فيتمثل فى تطوير المنظومات الداخلية لعمل الأحزاب، وذلك من خلال طرح رؤى وبرامج واقعية، وتطوير الخطابات السياسية والفكرية، وهو أمر فى غاية الأهمية خاصة بالنسبة للأحزاب التى ترفع شعارات الدولة المدنية والليبرالية والديمقراطية، حيث يغلب على خطابها الطابع النخبوي، مما يجعل الجماهير تنصرف عنها، فضلاً عن تطوير آليات العمل الحزبى من خلال الالتزام بالأسلوب الديمقراطى فى إدارة الشئون الداخلية، وتعزيز مصادر التمويل الذاتية للأحزاب، والاستفادة من أدوات وإمكانيات ثورة المعلومات والاتصالات. ويتمثل المتطلب الرابع فى تطوير آليات التواصل مع الجماهير، وتعزيز القواعد الاجتماعية للأحزاب فى مختلف محافظات الجمهورية، بحيث تخرج الأحزاب من القاهرة إلى فضاءات المحافظات الأخرى والمدن والقرى والنجوع. إن مسئولية تحقيق المتطلبات السابقة وغيرها تقع على عاتق الدولة من ناحية، وذلك من خلال تطوير قانون الأحزاب السياسية، وتنقية الخريطة الحزبية القائمة بحيث لاتكون هناك أحزاب على أسس دينية. وتقع على عاتق الأحزاب السياسية من ناحية أخري، حيث يتعين عليها المبادرة بمعالجة السلبيات الذاتية التى تعانى منها. ومن المؤكد أن الانتخابات البرلمانية القادمة سوف تكون كاشفة للأوزان الحقيقية للأحزاب السياسية، لاسيما وأنها تأتى بعد انتخابات رئاسية كانت حرة ونزيهة بشهادة المراقبين الدوليين من ناحية، وتطورات دراماتيكية لحقت بجماعة الإخوان المسلمين وحزبها «الحرية والعدالة» من ناحية أخري. وإذا كانت الأحزاب السياسية لم تقدم مرشحين للانتخابات الرئاسية التى جرت فى عام 2014، وبافتراض أن الرئيس السيسى يمكن أن يفوز بدورة رئاسية ثانية فى انتخابات 2018، وبخاصة إذا نجح فى تعزيز شرعية الصندوق بشرعية الإنجاز، فإنه سيكون على هذه الأحزاب الاستعداد من الآن للانتخابات الرئاسية فى عام 2022. وإذا أخفقت بعد 8 سنوات من الآن فى أن تخوض غمار المنافسة الانتخابية الرئاسية ببعض المرشحين الأقوياء، فإن فرص التحول الديمقراطى الحقيقى فى مصر سوف تظل محدودة فى أفضل الأحوال. لمزيد من مقالات د. حسنين توفيق إبراهيم