ما دار فى 25 يناير عام2011 فى مصر، مازال يثير الجدل كالعادة بين النخب- حول التوصيف والتصنيف، فهو ليس «حدثا» مكتملا، بل سيرورة، أو عملية، أو حالة ثورية مستمرة. وقد كانت انتخابات الرئاسة الأخيرة التى أجريت الاسبوع الماضي، حلقة مهمة ضمن هذه المسيرة الثورية ،والتى تعرضت لكثير من المشكلات والتحديات، بسببب عفوية الانطلاقة التى سمحت بكثير من الاختراقات والانحرافات. وتواجه قضية التغيير فى مصر تحديات مهمة، كونها ليست شأنا مصريا داخليا بحتا، أى السؤال لا يتوقف عند ماذا يريد المصريون؟ بل يمتد إلى ساحات أخرى تسأل عن أسئلة مثل: ما تأثير الحدث المصرى على العرب؟ ماذا يُتوقع من مصر؟ وماذا يجب أن يفعل المصريون تجاه محيطهم؟ وهنا يسود النقاش حول «الدور» و»النموذج» بين المصريين أنفسهم، وبين الآخرين. قضية »الدور« متشابكة وجدلية بين الداخل والخارج، وذلك لأن منطلق عودة مصر للقيام بدور متوقع يعنى استرداد مصر لقوتها الناعمة وغير الناعمة، كما يعنى أن أى مصر جديدة لابد أن تنهض داخليا، لكى تكون مقبولة خارجيا، فالدول التى كانت ترسل لها مصر البعثات التعليمية والخبراء والمستشارين قطعت شوطا فى النمو والتحديث،. فقد كبر الأخ الأصغر، وبالتالى يتوقع معاملة مختلفة، وقد يشعر أحيانا بالندية، وهذا يضاعف من مسئولية مصر، كما يتطلب سياسات، وعلاقات، ومعاملات جديدة وواعية. وهذا الدور فى المرحلة الراهنة تكاملى ويسير فى اتجاهين: الأخذ والعطاء، فمصر خلال فترتها الانتقالية هذه، تحتاج كثيرا لتعاون وليس المساعدة من الدول القادرة على سد ثغرات اقتصادية، وهنا تستوقفنى ظاهرة نفسية وثقافية تُعكر دوما العلاقات العربية - العربية، وهى خليط من الامتنان والتعالى المتبادلين، خاصة فى أوقات تأزم العلاقات، أو حتى الاحتكاكات العابرة. تتلازم مع مفهوم »الدور« فكرة »القدوة« أو »النموذج«، والتى تدعم وتكرس قوة وفعالية الدور، وهذا ما عرفته أوروبا فى تنافس فرنسا والمانيا تاريخيا، ويشمل النموذج ما هو سياسى وثقافي.أما بخصوص السياسي، فالتطور الديمقراطى المصرى ما زال فى مرحلة التجربة والخطأ، ولم يتبلور بعد، لكن التوقعات كبيرة، وهذا امتداد لمسئولية مصر التقليدية، فمصر التى صدّرت الناصرية والانقلابات، والإخوان المسلمين، والجماعات المتطرفة، فى الماضي؛ مطالبة هذه المرة أن تنجز نموذجا ديمقراطيا- لو استطاعت - وتعمل على تعميمه عربيا، بالاعجاب والاقتناع، وليس فرضه، ويختلط هنا السياسى بالثقافي، فهى مطالبة بنموذج قائم على حماية الحريات والدفاع عنها، والحرية مفهوم أوسع وأشمل من الديمقراطية السياسية، والتى قد تُختزل فى التداول السلمي. وقد يتم ذلك من خلال الانتخابات والتعددية الحزبية. أما الحرية، فهى مستوى فلسفى وفكرى أعلى للديمقراطية يجعل منها منصة لانطلاق حقوق التعبير، والتفكير، والمعتقد، وجميع الحريات الشخصية. وهنا نستدعى مصر طه حسين، قاسم أمين، محمد عبده، سلامة موسي، نجيب محفوظ، وغيرهم من رواد التنوير. فلابد أن تتعامل مصر مع موضوع الحريات بشجاعة، ومبادرة، وعصرية. فالابداع هو جوهر قوة مصر الناعمة، ولابد له من الحرية وغياب كل أشكال الخوف والتردد.وفى هذا الموقف من الحرية، اختبار لصدقية ديمقراطية مصر وجديتها، وقدرتها على التعمق أكثر من الشعارات والديمقراطية الأداتية. وعلى السياسيين والمفكرين والمبدعين فى مصر ألا يستهينوا بأهمية الحريات، ويجب أن تكون ذات أولوية تتقدم كل القضايا الاخري. ينتظر العرب بمختلف عقائدهم الدينية وطوائفهم أن تقدم مصر الجديدة نموذجا رائدا وحديثا لعلاقة الدين بالدولة والسياسة عموما، وهذا توقع طبيعى من بلد الأزهر الشريف، والدعاة؛وفى الوقت نفسه بلد الإخوان المسلمين والجماعات الدينية. وقد شهدت مصر عقب 25 يناير، وقبل حكم الإسلاميين برئاسة د.محمد مرسي؛ نقاشات جادة وعميقة، وبين كل الفئات، حول مدنية الدولة، لكنه توقفت فى الفترة الأخيرة، بينما ازدادت الحاجة لمواصلتها، وهذه من القضايا المحورية التى تحتاج لوضوح فكرى وحسم مواقف. وهنا يظهر كثير من الجدل الخبيث والطيب. فقد تتناثر اتهامات مغرضة تدعى بأن القصد من النقاش هو «إبعاد الدين عن الحياة»، ويُدخل البعض الحوار فى مسارب تهم على شاكلة: «الإلحاد» و»الزندقة» و»العلمانية المتطرفة»، وقد عاش العرب صراعا مفتعلا بين الدين والدنيا، كان سببا فى تخلفهم، حيث اهتموا بعلاقة الدين بالسلطة السياسة (وليس بالفكر السياسي)، ولم يجتهدوا فى علاقة الدين بالعلوم، ولا بالفنون مثلا، ونحن راهنا فى لحظة تاريخية تحتاج لتجديد الخطاب الديني. هنا أيضا مسئولية مصر محمد عبده، رفاعة الطهطاوي، على عبدالرازق، محمود شلتوت، الشيخ بخيت، محمد الغزالي، جمال البنا، وغيرهم من الشيوخ الأفاضل، ويجب ألا يقتصر التفكير فى تجديد الخطاب الدينى على من يسمون» رجال الدين»، لكنه جهد يشارك فيه كل المفكرين والمثقفين، ومتخصصى العلوم الانسانية والطبيعية. وأتمنى بعد أن انجلى غبار المعركة الانتخابية، أن تظهر المبادرات مجددا لعقد مؤتمرات وندوات تُكرس لموضوع تجديد الفكر الديني، وهذه مهمة مصرية، ولا أظن أنه من الحكمة أن نجعل هذا الموضوع من التابوهات الفكرية، أو نعتبره قضية ثانوية. كل هذه التحديات مشروطة بالخروج من الأزمة الاقتصادية، وهنا التوقعات العربية أن تتحول مصر إلى نمر عربى اقتصادي، ومجتمع منتج وعامل. ومصر لا تنقصها الموارد والإمكانات المادية والبشرية، لكن أصابها داء الاستهلاكية والفساد، وتم إهدار شنيع للإمكانات، وتفويت للفرص، ولابد من توقف اقتصاد «بقرة حاحا»، التى تحلب قنطارا ولكن مسلوب، وفى هذه الحالة ليس الاقتصاد مجرد أرقام ولكنه ثقافة قائمة على قيم الانتاج، والعمل، والادخار، والترشيد. وكجملة اعتراضية، فى لحظة كتابة هذا المقال، بمصر الجديدة، أنظر من النافذة فأرى أعمدة النور مازالت مضاءة حتى الساعة الثانية ظهرا، ويتكرر المشهد فى كثير من الشوارع والميادين، بينما لا يتوقف الحديث عن الطاقة واللمبات قليلة الاستهلاك للكهرباء، فالخروج من الأزمة لا يكون بتكثيف القروض ولا عودة السياحة فقط، بل بسلوك جديد، وعلاقة مواطنة متقدمة تُقدر قيم المال العام والصالح العام ايضا. ويقع ضمن الثقافة الجديدة المنتجة، ضرورة تغيير الاتجاهات فيما يخص تنظيم النسل، والتكدس فى المدن، والعمل فى الحكومة (الميري)، وعمل المرأة، ونظام التعليم والعمل اليدوى والفني. هذه مجالات لاستراتيجيات سريعة وملحة لكى يوضع الاقتصاد فى المجرى الصحيح. لكن كل الجهود من الممكن أن تنهار إن لم تتم مواجهة مشكلتيّ الفقر والبطالة، بصورة اسعافية. من الواضح أن التحولات المصرية المقبلة هى تحديات عربية أيضا، وقد نكون، رغم المشهد العربى القاتم ،على أبواب تدشين عصر عربى جديد ينعش الأمل في»ربيع» عربى حقيقي، بدلا عن الخيبة التى بدأت تدب بين الجماهير العربية. لمزيد من مقالات حيدر إبراهيم على