يقصد بالقوة الناعمة - وهو المصطلح الذى شاع استخدامه أخيراً فى قاموسنا الحديث - الثقافة والفن والعلم الذى ينتجه أى مجتمع، والذى يمثل رصيداً لهذا المجتمع ويعطى مكانة خاصة للدولة التى تمثله. وللقوة الناعمة وظيفتان فى الحقيقة، الأولى: أنها تزيد من الثقل السياسى والوزن الإستراتيجى للدولة، بفضلها تزداد قوتها، ويحسب لها حساب, ولا يتم التعدى على فكرها وثقافاتها وفنونها بسهولة. والثانية :أنها تمثل نوعاً فعالاً من أنواع المقاومة والتحدى. والأمثلة كثيرة هنا، وكلها تحمل دلالات قوية ومؤثرة. فى عام 1948، كان الفنان فريد الأطرش مدعواً لحضور حفل افتتاح فيلم من أفلامه فى الجزائر، وفوجئ بالآلاف من أبناء الشعب الجزائرى فى انتظاره فى المطار، حملوه على الأعناق.. ساروا به فى اتجاه المدينة، كان الهدف من هذه المظاهرة تأكيد الجزائريين هويتهم وثقافتهم التى حاول الفرنسيون طمسها، وكانت أيضاً رسالة يعبرون فيها عن اعتزازهم بعروبتهم وقدرتها على إنتاج فن وموسيقى راقية. ومن منا يمكنه أن ينسى ذلك الدور العظيم الذى لعبته كوكب الشرق أم كلثوم حينما وحدت العرب وألفت قلوبهم حول مصر عقب نكسة 1967؟. حاولت الصهيونية إنكار وجود الشعب الفلسطينى، رغم المقاومة الباسلة لأبنائه. ثم جاءت روايات إميل حبيبى وقصائد محمود درويش التى ترجمت لأغلب لغات العالم، فانتفت مزاعم الصهيونية بانكار وجود الشعب، واكتسبت القضية الفلسطينية بعداً إستراتيجياً. والفضل يعود للثقافة والقوة الناعمة. و يبرز هنا سؤال مهم: هل يمكن للدولة أن تلعب دوراً إيجابياً لدعم القوة الناعمة التى تنتجها؟ على سبيل المثال حينما أرادت الولاياتالمتحدة إخضاع الأنشطة الثقافية لاتفاقية التجارة الحرة، لاحظ الفنانون الفرنسيون أن هذا الوضع سوف يؤدى إلى تهميش الثقافة الفرنسية، فتكاتفوا معاً وطالبوا بما يسمى ب «الاستثناء الثقافى» الذى يتيح للدولة أن تدعم مالياً منتجاتها الثقافية، وأن تفرض مثلاً على دور السينما الخاصة نسبة معينة من عرض الأفلام الفرنسية. وكانت حجتهم: أن فرنسا لا تستمد هيمنتها من القوة العسكرية مثل الولاياتالمتحدة وروسيا، أو من قوتها الاقتصادية مثل اليابان وألمانيا، وإنما تنفرد بأنها تستمد مكانتها الدولية من القوة الناعمة فى الأدب والفكر والفلسفة والفن والموضة والمطبخ. ومع أن القوة الناعمة تعنى فى المقام الأول بصياغة الفكر والرؤى والمشاعر، والتى عادة ما يكون تأثيرها غير محسوس، إلا أنها على صعيد آخر قد تدر ربحا ماديا كبيرا وفوريا. على سبيل المثال ألبوم أغانى المطرب الأمريكى ذى الأصول الإفريقية مايكل جاكسون مع قلة تكلفته يدر دخلاً هائلاً لاقتصاد الولاياتالمتحدةالأمريكية، ربما يفوق ما كانت تجنيه من تجارة السلاح!... وفى مصر، فى منتصف القرن الماضي، إبان النهضة الاقتصادية والثقافية التى شهدتها، كان دخل السينما يأتى فى المرتبة الثانية بعد القطن. انتاج القوة الناعمة لا يكون توجيها مباشراً من أعلى وإنما يكون تلقائياً، ويظهر أثره على المجتمعات الأخرى من خلال الإشعاع الذى يحدث تأثيره بشكل تراكمى يتبدى على مدى سنوات، لذا يحتاج منتجو القوة الناعمة إلى حرية الإبداع كشرط أساسى للنمو والازدهار.