في ساعة شيطان يخيل إلي أن مصر، مثل كثير من الدول القديمة، مثقلة بتاريخها. تتعثر مراحل الانطلاق أمام مصر والعراق وسوريا والجزائر، أما الهند فحالة استثنائية. في غياب هذا العبء التاريخي تمكنت محميات الخليج من تخطيط «دول»، فقط باستعراض الخرائط وتصميم ماكيتات ثم إرساء التنفيذ على شركات أجنبية، ومن عائد النفط اخترقت ناطحات السحاب السحاب، وشقت الطرق، واستحدثت أبنية جديدة بواجهة تبدو تراثية. المفارقة أن أغلب المصريين لديهم زهو مرضيّ بتاريخهم الذي يجهلونه. لا يفرق كثيرون بين الأسرة الرابعة، أسرة بناة الأهرام في الدولة القديمة، والأسرة الثامنة عشرة التي أسست عصر الإمبراطورية في الدولة الحديثة، يجهلون تاريخ بناء الهرم الأكبر في القرن السابع والعشرين قبل الميلاد، متأثرين بأساطير العهد القديم وفيلم «الوصايا العشر» لسيسيل دي ميل حيث يجري فيه البناء بين عصري سيتي الأول وابنه رمسيس الثاني الذي أبكى ابنتي «ملك» فجر الجمعة 25 أغسطس 2006، أثناء نقله من قلب العاصمة إلى منفاه الجبلي. كانت «سلمى» (عشر سنوات آنذاك) تمسك بيدي، وأصرت «ملك» (أقل قليلا من أربع سنوات آنذاك) على أن أحملها فوق كتفي، من ميدان رمسيس حتى ميدان التحرير، ورغم وعدها برشاوى تقليدية، لم أستطع أن أمنعها البكاء، وهي تشير إلى التمثال، طالبة أن نتبع الملك، وتنادي: «رمسيس، رمسيس». يصعب على زائر المتاحف أن يتخيل، ولو في ساعة شيطان، أن المصريين المحدثين هم أبناء القدماء العظام، إذ لم يرثوا ما في داخل المتاحف من علوم وفنون وتحضر، في حين تحيط بالمتاحف أشكال التخلف. اللحظة الوحيدة المضيئة بدأت في جمعة الغضب، ثم انطفأت بعد أيام من خلع مبارك، مع اقتراب محنة استفتاء 19 مارس 2011. كلما زرت المتحف المصري، وبعض المتاحف الأخرى، اندهش موظف يرى مصريا لا يرتدي جاكيت ولا يعني بحلاقة ذقنه، ويدور هذا الحوار: «أيوة يا أستاذ؟». «أيوة ايه؟». «على فين؟». «داخل». «داخل فين؟». «أتغدى، مش ده مطعم؟». «على فين؟». «داخل المتحف». فما بالنا لو كان الداخل مصريا آخر، فضلا عن عدم اهتمامه بحلاقة ذقنه وتجاهل ارتداء جاكيت، كان أشعث أغبر؟ من بين الدول القديمة تظل الهند استثناء. رأيت عام 2007 وما بعدها في أربع زيارات شعبا محبا لتاريخه وتراثه. في عام 1857 أعلن جنود هنود تمردهم على سلطة الاحتلال، وهاجموا رموزها: منازل النبلاء والسجون، وتوجه نحو مائة فارس إلى القلعة الحمراء (ريد فورت) معلنين الثورة، التي كانت شرارة البدء، لانتفاضة احتاج البريطانيون إلى أكثر من عام لإخمادها. كانت ثورة 1857 ذات منطلقات قومية، لم تشهد واقعة اختلاف أو صدام بين مسلم وهندوسي. كانوا ينشدون الحرية.. دين الهند الحديثة. يبلغ رسم دخول الهندي عشرين روبية (نصف دولار)، وللأجنبي مائة روبية. لكن انخفاض رسم الدخول، وحده، لا يفسر اصطفاف مئات الهنود انتظارا لدخول (القلعة الحمراء)، في حر شديد ورطوبة أكثر شدة. يتخيل المصري الذي لم يغادر، في غير ساعة شيطان، أن مصر محور العالم، لا يستقيم حوار في أي مكان، ولا إثارة قضية، إلا بذكرها والرجوع إليها. وحين نسافر نكتشف أن مصر مثل غيرها، وأنها ربما صارت عجوزا أكثر من اللازم، وأن الدنيا أكثر سعة وجمالا من ضيق الأفق، وأن الرسالة التي كان حملها يثقل كاهلنا في فترة سابقة نفد مفعولها بسبب عدم التواصل، وأن المستهدفين بالرسالة نضجوا ونافسوا وتمردوا. في السنوات التسع الأخيرة، زرت المغرب العربي سبع مرات، وكان للمغرب والجزائر النصيب الأكبر. رأيت «غياب» مصر، هناك «حضور» باهت، أقرب إلى الذكرى، وأبطاله تجاوزوا الخمسين، وشهدوا نهاية ذلك «الحضور»، حين كان لمصر دور تشرف بتقديمه، قبل أن يصاب القلب بالعلل، وتتطاول الأطراف وتتجاوز أحيانا. لا أحد يلوم الجيل المغاربي الجديد، الذي بلغ أربعين عاما لا أثر فيها لمصر، وهو ليس مضطرا لاستعارة تجربة جيل سابق يمثله الدكتور محمد مشبال، ويعبر عنه بمحبة وأسى كبيرين، في كتابه «مصر في عيون المغاربة». مشبال الذي يعمل أستاذا للتعليم العالي بكلية الآداب في جامعة عبد المالك السعدي في تطوان أهدى كتابه إلى سيد البحراوي وأمينة رشيد «أول من احتضن هواي المصري»، وهو هوى لازمه وكبر معه، ثم اكتشف أن في بلاده ثقافة أخرى وهوى آخر: «كان انتقالي من الدراسة الثانوية إلى الدراسة الجامعية، انتقالا من الثقافة المصرية إلى الثقافة المغربية». في الثانوية أدمن قراءة مصطفى صادق الرافعي ومصطفى لطفي المنفلوطي وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وطه حسين وعباس العقاد ونجيب محفوظ وغيرهم من المشارقة، ثم نقلته الجامعة إلى فضاء أكثر رحابة، فاضطر لطي قراءاته السابقة، لكي يتمكن من التفاعل مع الخطاب الثقافي الجديد: «كنت أعاتب نفسي وأرثي حالي المتخلفة عن لغة الحداثة التي يتقنها هؤلاء الكتاب الذين تجاوزوا بمسافات بعيدة لغات طه حسين، وو... ولم أدرك في ذلك الوقت أن اللغة النقدية التي اصطدمت بها في مقالات عديدة من النقاد المغاربة كانت تعاني العجمة والركاكة وتكلف التعبير المستحدث». الكتاب ذو شجون، والكاتب الذي استعرض هواه المصري كأنه يردد: «أضحى التنائي بديلا عن تدانينا»، يفسر اتساع المسافة بعدم تطور الخطاب النقدي والبحث الجامعي في مصر، إذ «ظل تقليديا يجتر ماضيه غير قادر على تجديد نفسه بحكم انغلاقه على نفسه»، ولم يعد حال السينما والغناء أفضل حالا، منذ السبعينيات، بداية خذلان مصر لأجيال مغاربية مصرية الهوى، أما الجيل الجديد فلا يشعر بفداحة الخسارة، وكيف يأسى على ما لا يعرف؟ يقول مشبال: «لا يوجد بلد أو شعب أو ثقافة استطاعت أن تتغلغل في وجدان المغربي، وتصوغ وعيه، مثلما استطاعت مصر والمصريون والثقافة المصرية... أصبحت الثقافة المصرية عاملا فاعلا في تشكيل الرغبة الأدبية والفنية والفكرية عند الإنسان المغربي»، حتى لدى بعض الذين لم يزوروا مصر، ومنهم محمد أنقار مؤلف رواية «المصري». لم تتوقف رحلات المغاربة إلى مصر، منذ القرن الثالث عشر الميلادي. كانوا من العلماء والأدباء والحجاج والطلاب والفنانين، وهناك «حقيقة تاريخية وثقافية هي أن الهوى المصري يشكل جزءا» من ثقافة القارئ المغربي ووجدانه، إلا أن الأجيال الجديدة ليس لديها حنين كبير إلى ما هو مصري، لأسباب منها «التعالي واللامبالاة». يتفهم مشبال هذا الشعور لدى الجيل الجديد، ولكنه يرى أن المثقف المغربي عليه أن «يتدبر» الصيغ المختلفة والممكنة للتواصل بين الثقافتين المغربية والمصرية. تحت عنوان «الحلم المشرقي»، يروي مشبال تجربته. كان أبوه يحثه على التفوق الدراسي «حتى تسافر إلى مصر، كما سافر عمك وأصبح بعد عودته من شخصيات المدينة». أصبحت الصورة الذهنية عن مصر أنها مصدرا للمكانة الاجتماعية المرموقة، وعلى الرغم من تعرض هذه الصورة في الثمانينيات للاهتزاز، فإنه آثر السفر إليها للدراسة، بدلا من فرنسا التي يفضلها معظم الطلاب المغاربة، ومن جامعة القاهرة نال درجة الماجستير عام 1987. بعد معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979، خلت الساحة المصرية للفن الاستهلاكي التجاري، وهاجر كثير من رموز الثقافة، وتراجع البحث الفكري والأدبي «في بلد أنتج أعظم المفكرين والأدباء في الثقافة العربية الحديثة»، وهنا برز مثقفون عرب يحظون بالاحترام.. محمد عابد الجابري وعبد الله العروي ومحمد مفتاح وعبد الفتاح كليطو، وعبد السلام المسدي وحمادي صمود والهادي الطرابلسي، وكمال أبو ديب، وعبد الله الغذامي، وفيصل دراج. يستعرض مشبال صورة المغربي المفتون بالهوى المصري، من خلال قراءة أربعة أعمال أدبية لمغاربة من أجيال مختلفة: عبد الكريم غلاب يكتب «القاهرة تبوح بأسرارها»، سيرة ذاتية عن حياته في القاهرة، في منتصف الثلاثينيات لاستكمال دراسته بجامعتها. محمد برادة يكتب «مثل صيف لن يتكرر»، سيرة روائية تمتد بين عامي 1955 و1998. رشيد يحياوي يكتب «القاهرة الأخرى»، يوميات نجت من النظرة الاستشراقية السياحية. أما العمل الرابع فهو رواية «المصري»، ومن عنوانه تبدو محبة مؤلفها محمد أنقار لنجيب محفوظ وللثقافة المصرية، بل إن العنوان يدل على توقه «إلى فضاء آخر، وأناس آخرين، مما دفعه إلى التفكير في كتابة رواية مستوحاة من الفضاء المصري»، عبر بطل يريد أن يكتب عملا روائيا شبيها بإحدى روايات محفوظ. يقول أنقار لمشبال في حوار ينتهي به الكتاب: «قصدت أن تكون (المصري) رواية الحياة وليس رواية الصنعة الأدبية وكفى». ورغم صدور «المصري» في سلسلة شهيرة هي (روايات الهلال، نوفمبر 2003) فلم تحظ باهتمام النقاد والمثقفين في مصر، ولم يلتفت إليها أحد. ربما أصاب الرواية التي تحمل اسم مصر، ونشرت في القاهرة، بقايا آثار العزلة المصرية. أصابنا الكبر، مثل مصر. وكبر الأولاد، وتأثروا بما تأثرت به مصر من شروخ وتصدعات. «سلمى» بطلة مقال «ماذا أقول لابنتي يا سيادة الرئيس؟» 2007 صارت في الثانوية العامة، ولا تريد السيسي، في حين تنصحني «ملك» (12 عاما الآن) بانتخابه. في انتخابات 2012 كان حماسهما لحمدين «النسر الصاحي حمدين الصباحي»، واخترت خالد علي، والآن أعتذر! «ملك» اليوم تسخر من «سلمى»، وتوصيني: «السيسي يا بابا، اوعدني.. كفاية عندنا واحدة في تنظيم القاعدة!». أتأمل «ملك» وهي على عتبة الوعي، تفاجئني بأسئلة عن أمور ظننتها بديهية أحيانا، وأحار في الإجابة عن بعضها. كنت أحاول أمامها تجنب أي كلام مجرد، لأنها سوف تسألني مباشرة: «يعني ايه؟» عن شخص أو مكان أو موضوع. سمعت اسم «مصر» يتردد، في نشرة تليفزيونية يوم 3 2 2006، وكانت تقريبا قد أتمت أربعين شهرا، فسألتني: يعني ايه مصر؟ قلت لها: مصر هي بلدنا، اللي احنا عايشين فيها. فسألتني في براءة: هي فين، أنا مش شايفاها. الآن، أسأل نفسي: هي فين مصر؟!