الحوار حول القضايا القومية الكبرى .. على اختلاف تنوعها وأهدافها وتخصصها ، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو حتى أخلاقية ، إما أن نواجهها بطريقة منهجية علمية ، أو نتركها للمزايدات والشعارات والجدل السياسى يطمس معالمها ويصيبها فى مقتل . وكلمة جدل .. هى كلمة واحدة ، تعنى الحوار والرأى والنقاش ، وهى مكونة من ثلاثة حروف .. لكنها تختلف عن الدجل فى ترتيب حروفها ، وفى معناها تتنافر وتتناقض وتتضاد ، فالجدل والنقاش محمود مطلوب حتى لو بلغ حد السفسطة ، إذ يخلق نشاطاً ذهنياً عالياً ، بينما الدجل واحد من أساليب النصب .. والاحتيال .. والاستيلاء على عقول الناس بالباطل .. وإسقاط معرفتهم إلى الهاوية فى جميع المجالات . ورغم أننا أحوج ما نكون فى هذه الفترة ، إلى حالة الجدل والحوار الوطنى البنّاء ، بعلم وموضوعية.. يَضَع قضايا الوطن ومصالحه فوق الجميع ، فإنه وبكل أسف فلقد انحسرت دائرة الجدل .. واتسعت وتصاعدت حدة الدجل .. حيث تكاثر على الساحة الفقهاء والخبراء والنشطاء يحدثوننا فى جميع العلوم والتخصصات من يصدق أن يُحدثنا فى العلوم الدستورية .. وعلوم القانون .. من يعملون بالهندسة .. أو من كانت لديهم خلفية عسكرية غير قانونية .. ومنهم نشطاء سياسيون .. أو حقوقيون هاوون .. ومنهم عاطلون متفرغون لا يعملون .. فيبشرون الناس بأن القانون الفلانى غير دستورى .. أو أن التشريع العلانى يستهدف حماية الفساد والمفسدين .. وأن الدولة غير محترمة .. ويبشرون بأن قضايا التحكيم الدولى فى مصلحة مصر حتماً وأننا سوف نكسب كل القضايا مهللين ومكبرين ، ويضربون لنا الأمثال ويضعون خطة لمواجهة كل ذلك حتى لو كانوا من الغاوين ، ومع كل ذلك لم نسمع قانونياً واحداً حدثنا عن الهندسة المعمارية أو التصميمات الإنشائية أو الخرسانة أو الطرق ، رغم ما حدثنا به هؤلاء فى مناسبات عديدة بعلوم القانون والاقتصاد .. منها تلك الضجة التى أُثيرت بمناسبة صدور قانون تنظيم إجراءات الطعن على عقود الدولة ، فكتبوا لنا المقالات فى المشروعية الدستورية ، وشاركوا فى الحوارات ، وقدموا لنا الآراء والمقترحات وكأنهم فوق العلماء والخبراء فى التخصصات والعلوم . الآفة الكبرى يا حضرات ، أن القواعد العلمية قد تاهت وسط الزحام والدجل ، وأن التخصصات قد اندثرت أو كادت .. وأن الدجل قد ازدات شراسته ، وأن مهابة العلوم والخبرة قد ضاعت ، وتجرأ البعض على أن يحطموا لنا قواعد العلوم والثقافة ، وضربوا التقاليد الراسخة للتأمل والاحترام فى مقتل ، فمنهم من يدعى لنفسه لقبا علميا مثل درجة دكتوراه فى العلوم والاقتصاد .. وربما الفلسفة .. ثم نكتشف أنه ليس كذلك ، والغريب أن من هؤلاء المتخصصين .. أو المسئولين قد أفسدوا الحياة العلمية والخبرة والتخصص عندما استخدموا معرفتهم فى تحقيق أغراض شخصية أو أهداف سياسية أو شاركوا السياسيين والناشطين مآربهم .. فيجور الواحد منهم على العلم أو التخصص ، فالسياسى يقرأ علينا مواد الدستور والقانون ، ويفسر لنا أحكامه ، ويعلق على أحكام القضاء مستحسناً أو مستهجناً .. يفتى ويقرر مستخدماً الدجل لتحقيق الأغراض السياسية ، فلا هو يعرف أصول وقواعد القانون ، ولا هو قد درس قواعد التفسير ولا هو اطلع على السوابق .. حتى لو كان منهم من يفهم فى علم الكلام .. لكنه لا يفهم فى فقه اللغة !! وبعض المتخصصين من أصحاب الاختصاص أو السلطة يقعون فى ذلك الفخ اللعين ، فيهدرون ضمانات التقاضى بالتدخل فى شئون العدالة ، حتى ولو كان ذلك يخص قضاة التحقيق أو المحاكمات .. أو يجاهرون علناً وأمام الناس بأن القانون غير دستورى ، بينما يرى المشرع أن القاضى قد خالف النصوص فى قبول الدعوى بغير مصلحة .. وأنه يستهدف بتشريعه المصلحة العليا للبلاد .. فى دولة تسعى إلى تحقيق مصالحها وإنقاذ سمعتها أمام العالم باعتبارها دولة محترمة ذات سيادة وليس العكس .. فإذا وقف الحوار عند حد الجدل واحترام النصوص والاختصاص كان بها ، أما إذا بلغ التعدى والانحراف واغتصاب السلطة فقل على الدنيا السلام .. إذ تختلط الأوراق .. ويقع الاعتداء على الاختصاص .. وتتوه المصالح العليا للبلاد ..وإذا كان علينا أيها السادة أن نحترم الخلاف والجدل ، وأن نلتزم الموضوعية والمهنية ، فإن علينا أن نحظر الدجل ونستهجنه لأنه يقع فى دائرة الاتهامات والتجريح والتصنيف ، وتبدو مسئولية الإعلام والصحافة بوصفها رقابة شعبية .. تماماً كالرقابة القضائية .. والرقابة البرلمانية .. متى التزمت مصلحة سندها وظهيرها وهو الشعب صاحب السيادة ومصدر كل السلطات .. واحترام حق الشعب فى المعرفة والتعبير بالحق والصدق والموضوعية . رحم الله الرعيل الأول الذى علمنا كيفية السعى الجاد إلى العلوم واحترام الجدل والحوار ومهابته .. ولهذا كانت كلمات المرشح الرئاسى المشير السيسى محل إعجاب وتقدير الرأى العام ، بالحثّ على إعلاء النقاش والحوار والجدل .. واحترام الأخلاق وقد تعهد بإحيائها وحمايتها .. وأهمية اختيار القدوة الصالحة فى كل مجالات العلوم والخبرة والتخصص ، وترسيخ العلاقات الإنسانية ، رغم أن ذلك كله قد جاء فى مجال السياسة ، لأنها قيم اختفت عنا فى الممارسة السياسية والحزبية لسنوات طوال . فهل نغلق أيها السادة باب الدجل ، ونعلى شأن الجدل والحوار واحترام الأخلاق .. لأن الأمم الأخلاق ما بقيت .. فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا ، وإنا لها لعازمون لبناء مصر الجديدة ومستقبل أبنائها وتحقيق مصالح البلاد فى ظل جدل وحوار علمى بنّاء .. بعيداً عن صور الدجل السياسى اللعين !! لمزيد من مقالات د . شوقى السيد