لا تقنعني بأن أحدا يدرك تحديدا أبعاد الثورة التي تعيشها مصر منذ عام وحتي كتابة هذه السطور, ومن يدعي ذلك فهو إما مدعي أو كاذب;فالحدث جلل وتداعياته من الصعب التنبؤ بها كمثل ما كان صعبا التنبؤ بالحدث أساسا بالحجم والأثر الذي عشناه ولم نزل!! ومن ثم فإن الحدث متلاطم الأمواج إلي حد بعيد,وحين تتلاطم الأمواج لا يملك الربان سوي الانتظار,وإلا فإن أي محاولة للسير علي درب موجة من الموجات هو ضرب من ضروب العبث والتهور غير المحسوب, وفوق هذا وذاك هو شبه انتحار- أي عاقل لابد وأن يفعل ذلك.. إلا مماليك الإعلام!! و( مماليك الإعلام) هو مصطلح اخترعناه اليوم من نسيج الأحداث, ونعني به تحديدا ثلة من إعلاميين ما أنزل بها الله من سلطان, هبطت فوق رءوسنا من حيث لا نحتسب, تمسك بزمام العقول, تعبث بها ذات اليمين تارة وذات الشمال, تحابي بعضها بعضا علي حساب المهنة والناس والبلد والعالم بأسره إذا شئت!! ثلة تتعلم فينا, وتكتسب الخبرات علي حسابنا, وتجني من وراء ذلك أرقاما فلكية في المقابل دون سند أو منطق لتخرب بيوتنا نحن, تدق الطبول وتضرم النيران بجهل ثم تهرول في جنح الليل لتختبئ لتعود في اليوم التالي وتحاول أن تطفئها!! ثلة أدمنت اللعب علي كل الحبال, يحمل أفرادها رصيدا رهيبا من النفاق يحفظه الناس( بالصوت) و( الصورة); فهم كانوا الأقربين للنظام البائد, وهم الأقربون اليوم للثوار!! علما بأن نظام مبارك والثوار لا يلتقيان, ولكنها حرفية ركوب الموجة وعكسها دونما بادرة سقوط!! وما بين إعلام رسمي وإعلام خاص يا قلب لا تحزن: أما عن الإعلام الرسمي, فنحن أمام أشباه متهمين بالعمالة دائما دونما ذنب أو جريرة, كل ذنبهم أنهم كانوا في ذات يوم يروجون( كرها لا طوعا) للنظام البائد, ذلك النظام الذي لم يكن واحد( فيكي يا مصر) لا يروج له إلا من رحم ربي!! وبإطلالة بائسة مبتئسة يعتليها الإحساس بالذنب هاهم اليوم علينا يطلون, يرددون الكلام بشفاهم, وعيونهم حائرة مترددة مرتعدة خوفا من أن يحسب كلامهم علي هذا الفصيل أو ذاك, أو ربما يعيد إلي ذاكرة الناس ما قد كان!! ولذا فهم مهاجمون مدافعون, معارضون مؤيدون, متفائلون متشائمون, ضاحكون باكون,منفعلون هادئون.. هم الشيء ومنتهي نقيضه إلي يوم يبعثون!! ولقد انعكس أداء عقولهم هذا علي ما يعرضون, فتجدهم يتحسرون علي حال البلاد في فحوي كلامهم, ثم تراهم يروجون للثورة والثوار بالأغنيات, والتيترات, والفواصل; ينعتون المواجهات بالشغب والإفساد في الأرض, ثم علي الضحايا يترحمون!! أما عن الإعلام الخاص, فأنت أمام برامج حوارية هي أقرب إلي عروض الساحر والبلياتشو في مدينة ملاهي من فئة الدرجة الثالثة: قرب قرب قرب.. واتفرج يا سلام في العرض( العالمي) علي الساحر فلان والبلياتشو علان, يجمعون الناس لعرض لا ريب فيه بالطبلة والمزمار, فيدلف الناس إلي خيمتهم مصدقين مهطعين فلا يجدون سوي عرض من عروض الهواة سرعان ما عنه ينفضون, ملؤه( سقط متاع) من محاورين إلا قليلا فبالأمس يسقط مبارك واليوم يسقط المشير.. وغدا يسقط البرلمان ثم تسقط مصر والناس أجمعين, خبراء في الدين لا يشق لهم غبار وفي خبايا السياسة عالمين, فما وجدنا خبيرا بينهم في الإنتاج أبدا أو مشجعا للمنتجين!! نوعية من بشر جل موهبتهم أحاديث مرسلة لا قوام لها ولا مذاق, ووجوه تكررت وتكررت فما عادت تخرج بجديد إلي حد السأم, ومداخلات أدمن المذيعون توجيه عناية القائمين بها إلي خفض صوت التلفاز قليلا في كل مداخلة, حتي حفظنا هذا النداء عن ظهر قلب,فلا الصوت انخفض ولا المداخلات توقفت ولا هي جاءت بأي جديد!! وإذا كانت نوعية مذيعي الإعلام الرسمي تعتليها الخبرة كمثل ما يعتليها كبر السن علي درب أقدميات تحاول التشبث قدر المستطاع بقطار الحيوية والشباب الذي ولي بغير جدوي في رحاب مدرسة إعلام تقليدية دامت لسنوات بلا معني فأضاعت أعمارهم سدي, فإن نوعية مذيعي الإعلام الخاص يعتليها افتقار حقيقي لأبجديات الخروج علي الناس, ما بين جهل بصحيح مخارج الألفاظ أو قواعد النحو بل ومعوقات في النطق أساسا..( وكله عند العرب صابون)!! ولكن ماذا تنتظر من شخص قد لا يكون امتهن الإعلام يوما في أي شكل من أشكاله ؟ أو امتهنه في قالب لا علاقة له بالشاشات؟ وهل كل صحفي أو صحفية يصلح مذيعا أو مذيعة ؟ لا يستويان!! ويحضرني في هذا السياق تعريف اصطلاحي دقيق لمعني الإعلام بأنه( تزويد الجماهير بالأخبار الصحيحة والمعلومات السليمة والحقائق الثابتة التي تساعد علي تكوين رأي في واقعة من الوقائع, أو مشكلة من المشكلات, بحيث يعبر هذا الرأي تعبيرا موضوعيا عن عقلية الجماهير واتجاهاتها وميولها)!! فما بالك عندما تكون الأخبار غير صحيحة, والمعلومات غير سليمة, والحقائق متلونة مترنحة مزيفة, يزفها إلينا أباطرة من هواة الإعلام جلوس في الاستديوهات, جل اهتمامهم التركيز الشديد علي إظهار خاتم في الإصبع أو ساعة يد أو تسريحة شعر أو ربطة عنق, أو استعراض علاقات حميمية مع الضيوف, في مقابل( شراذم) من مراسلين( حفظة) للتوجيهات المسبقة, ينقلون إلينا من موقع الحدث ما لا يتسق مع صورة المشهد الذي ينقلونه إلينا علي الهواء مباشرة جهارا نهارا, يعميهم ما حفظوه عن ظهر قلب قبل بث فقرتهم عن الحقائق من حولهم.. والاسم( مراسلين) ؟ فصحيح أن آلة الإعلام كثيرا ما يتم توظيفها للإيحاء باتجاه قد لا يكون صحيحا,ولكن أن يتم تحريف الكلم عن مواضعه علي مرأي ومسمع من الناس الذين يرون بعكسه فهذا ليس إعلاما بصراحة وإنما بجاحة مفرطة!! وتحضرني في هذا السياق أيضا مقولة عبقرية أطلقها الرئيس الأمريكي الشهير إبراهام لنكولن( محرر العبيد):( تستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت; وتستطيع أن تخدع بعض الناس كل الوقت; لكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت).. ولقد صدق لنكولن فيما قال!! وأتعجب اليوم أيما تعجب, وأنا أري التظاهرات وقد أحاطت بمبني ماسبيرو( العتيق) واستقرت إلي أجل غير مسمي مطالبة( بتطهير) الإعلام, فكانوا كمثل من أراد أن يطهر الانترنت مثلا, فاعتصم أمام جهاز كمبيوتر ما عاد أحد يستخدمه أساسا ومآله التكهين!! المزيد من أعمدة أشرف عبد المنعم