مع بداية الستينيات من القرن الماضي احتشدت مصر بكل طوائفها خلف مشروع السد العالي، ولمدة عشر سنوات كان ثلاثون ألف عامل يصلون الليل بالنهار لاستكمال العمل، ومعهم مهندسون وخبراء ومعدات لا مثيل لها تتوافد على المكان. تختلط أصوات التفجيرات متناغمة مع أصوات العمال والسيارات والآلات الثقيلة، من أجل تشييد جدارين متوازيين عبر شاطئي النيل يفصل بينهما رمال وصخور لبناء جسد السد، ما يزيد على ثمانية ملايين طن للبناء ومئات الأطنان من المتفجرات والديناميت لنزع مائة ألف طن من الصخور في المرحلة الأولي لتحويل مجري نهر النيل، وأكثر من40 مليون متر مكعب من الرمال والخرسانة، وثلاثين ألف عامل لاستكمال معجزة السد العالي بطول 3600 متر وارتفاع 111 مترا فوق قاع النهر، وعرض 40 مترا، كان الهدف حماية البلاد من الفيضان والتوسع الزراعي وتوفير الطاقة الكهربائية. وفي خضم الحماس الشعبي العام لاستكمال تشييد السد العالي، انخرط الفن المصري في التعبئة العامة لبناء هذا الصرح العظيم، وقدم مطربومصر أجمل أغاني الحماس والوطنية الصادقة، كتعبير حي عن المراحل التى يمر بها البناء، ولامس حلم بناء السد العالى مواهب الشعراء والملحنين والمغنين ليتغنوا بهذا المشروع العظيم الذى وعد مصر بالرخاء، فظهرت فى تلك الفترة مجموعة كبيرة من الأناشيد والأغنيات التي تتغنى بالسد الذى وهب مصر طاقة كهربائية جبارة فى ذلك الوقت. كما أمّن لمصر المياه التى حمتها فى عدة مواسم من الجفاف التي ضربت أفريقيا سنين طويلة، وكانت البداية بصوت سيدة الغناء العربي فى 26 نوفمبر عام 1959، حيث غنت نشيد «قصة السد العالي» كلمات الشاعز عزيز أباظة، وألحان رياض السنباطي، والذي يقول مطلعه : « كان حلما وخاطرا واحتمالا/ ثم أضحى حقيقة لا خيالا». وقد جاء استقبال الجمهور لهذه القصيدة حماسيا زاد حماسه المناسبة التى قدمت فيها القصيدة فى يوم احتفالى بالقاعة الكبرى فى جامعة القاهرة، حضره السفراء العرب والأجانب وكبار رجال الدولة المصرية، على رأسهم الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، وجاء هتاف الجمهور الحماسى فى محطات معينة من الأغنية ليعبر عن تفهم الجمهور للقصيدة والهدف الذى تعبر عنه. وبعد أسابيع قليلة وفي حفل أضواء المدينة الذى أقيم في أسوان للاحتفال بوضع حجر الأساس لبناء السد العالي في 9 يناير 1960 ، وحضره الزعيم جمال عبدالناصر، غنى عبد الحليم حافظ «حكاية شعب» حول قصة بناء السد، وقدم فريد الأطرش أغنية اسمها «السد العالي»اشتهرت بإسم «يا أسطى سيد»، وهي مناجاة من الشاعر إسماعيل الحبروك للعامل المصري للعمل تحفزه علىالهمة والنشاط في سبيل اتمام بناء السد. وغنت شادية أكثر من أغنية منها « أيامنا الحلوة جاية» كلمات صلاح جاهين، وألحان منير مراد، و» بسبس نو» أو «الأيام عماله تحلو» ، كلمات صلاح فايز، وألحان محمد ضياء الدين، وغنى أيضا محمد قنديل أكثر من أغنية جميلة عن السد منها: « حديد أسوان» كلمات عبدالفتاح مصطفى، وألحان أحمد صدقي،و« اعمل لنا مفتاح» كلمات صلاح جاهين وألحان أحمد صدقي، كما غني محمد عبدالمطلب « على أسوان يا ريس»، وغنى محرم فؤاد « هنا في مكان السد»،وقدمت هدى سلطان «طول ما أنت معانا يا ريس»، وتراجع الموسيقار محمد عبدالوهاب عن قرار ابتعاده عن الغناء وقدم للإذاعة المصرية أغنية بصوته بعنوان « ساعة الجد» عن السد العالي للشاعر حسين السيد، كما غنت كل من مها صبري وشريفة فاضل وإبراهيم حموده أغنيات مهمة عن هذا المشروع القومي.
تحويل مجرى النيل فى 14 مايوعام 1964 أعطى الزعيم الخالد جمال عبدالناصر إشارة البدء بتحويل مجرى مياه نهر النيل، وقد شارك في الضغط على زر التفجير معه الرئيس السوفيتي «نيكيتاخروشوف»، وأول رئيس للجمهورية العربية اليمنية عبد الله السلال، وأول رئيس للجمهورية العراقية عبد السلام عارف، وأول رئيس للجمهورية الجزائرية أحمد بن بيلا، والرئيس السوري شكري القوتلي، وكذلك نخبة من رواد الفضاء الروس ومعهم الرائدة الشهيرة فالنتينا، والمهندس صدقي سليمان وزير السد العالي، وهلل المصريون فرحاً لتحويل مجرى نهر النيل، وأقاموا لهذا احتفالاً كبيراً في البر الغربي لأسوان، واستمرالحفل إلى ساعة مبكرة من الصباح، كانت سهرة حيا فيها الفن يوما من أخلد تاريخ أمتنا. بدأ الحفل الكبير الذى نقلته الإذاعة والتليفزيون فى وقت واحد، في الساعة العاشرة مساء بمجرد وصول الرئيس جمال عبدالناصر، وضيوفه من الملوك والرؤساء العرب والأجانب، كانت أولى فقرات الحفل فاصلا موسيقيا قدمه أوركسترا القاهرة السيمفوني ، عزفت فيه كونشرتو عبدالوهاب، وهى مجموعة من ألحان الموسيقار محمد عبدالوهاب، جمعها الموسيقار الروسي « أميروف» في قطعة واحدة. وبعد الفاصل الموسيقي قدمت فرقة رضا الاستعراضية لوحة غنائية إستعراضية من ألحان على إسماعيل بعنوان « قطار الثورة» ومن بينها لوحة عن « السد العالي»، اشترك فيها محمود رضا وفريدة فهمي، وقد ألهب هذا الاستعراض بالألحان الحماسية المتوثبة وحركات الراقصين الرائعة المعبرة عن فرحة الشعب بهذا الحدث العظيم حماس « خروشوف» الذى كان يتابع بشغف الرقصات ويتمايل نشوة على ألحان على إسماعيل، وكذلك كان حال كل الرؤساء العرب، واشتركت الفرقة الموسيقية العربية التى أنشأتها إدارة موسيقات الجيش بقيادة أحمد الحفناوي، وعزفت مقطوعة موسيقية بعنوان « العيد»، بعذ ذلك جاء دور الغناء فقدمت المجموعة أغنية «جنبنى السد» من كلمات الشاعر فؤاد حداد، وألحان عبدالعظيم عبدالحق،واشترك سيد مكاوي فى الحفل حيث غنى أغنية ترحيب بأول رائدة فضائية من كلمات صلاح جاهين وهي أغنية «فانتينا..فالنتينا..اهلا بيكي نورتينا»، كما قدم أغنية «مافيش في قلبي ولا عينيه الا فلسطين»، وختم فقرته بأغنية « حيوا معايا الخطوات» كلمات فؤاد حداد التى تتغنى بتحويل مجرى النيل ويقول مطلعها: « حيي معايا الخطوات / حيي مصر الفلاحين/ تولد مصر الأسطوات/ يا فجر الأيام الهادي/ يا شرفي وحبي وجهادي/ يا ولدي يا ضي ولادي يا واقف في الخط الأول/ في اليوم اللي يتم الآية/ وحياة المجرى اللي اتحول/ وحياة الحق اللي معايا/ حيي معايا الخطوات». وبعدها ظهرت المطربة سعاد محمد وغنت قصيدة رائعة بعنوان « « يا عمال السد العالي انتم تبنون الحرية» كلمات الشاعر أحمد مخيمر، صاحب قصيدة «مرحباً يا خروشوف» التى سُجلها بتاريخ 12-5-1964 وألحان رياض السنباطي، ويقول مطلع الأغنية : « يا عمال السد العالي أنتم تبنون الحرية بسواعدكم والقومية والوحدة للوطن الغالي/ تبنون لكل الأجيال ولهذا الشعب تضحون/ علا ما تبنون/ ما حولتم مجرى النيل بل حولتم مجرى الزمن ليفوز به بلد الوطن/ وصنعتم معجزة الجيل بنضال للشعب طويل/ بصبحا فيه يعيشون». بعدها صعدت المطربة نجاة الصغيرة على المسرح لتغني من ألحان الموسيقار محمد عبدالوهاب وكلمات حسين السيد أغنية بعنوان « وفينا العهود» التى تقول في نهايتها « قالوا يا ما قالوا السد ده مستحيل/ وتاريخنا يقول إننا وأخدين على المستحيل/ حطينا إيدنا في إيد بعض وقلنا هيلا هيلا/ خلينا جبال الصبر مترتحش ليلة/ وحولنا المجرى بإيدينا ومقولناش يوم آه/ وبإيدينا فكينا القيود، وسبقنا الوجود»، كما قدمت أيضا أغنية آخرى بعنوان « حود من هنا» كلمات صالح جودت وألحان بليغ حمدي والتى تقول فيها « حود من هنا يا حبيب قلبنا يا نيل يا أبوالعجايب يصونك ربنا».
فايدة كامل «حولنا نهر النيل» وافتتحت الفصل الثاني من الحفل المطربة الثورية فايدة كامل بأغنية « إجرى وسيل يا نيل» التى يقول مطلعها : « إجرى وسيل على الرمل يا نيل/ إجرى يا نيل من هنا لهناك/ أرض الصحرا بتستناك، بإيدينا حولنا مجراك، إجرى وهات الخير معاك»، وقدمت أيضا أغنية آخرى بعنوان « أدينا حولنا نهر النيل» كلمات الشاعر مصطفى عبدالرحمن وألحان عبدالعظيم محمد.
شادية وبلد السد بعدها صعدت المطربة شادية التى تخلت عن قرار اعتزالها الغناء على المسرح التى اتخذته عام 1962 لتغني رائعتها « بلد السد» كلمات حسين السيد، وألحان منير مراد، وتفوقت شادية فى فكرة وموضوع الأغنية، وتنوع وتمكن صوتها وطبقاته حسب كل مقطع فى اللحن، وبأسلوب يجمع ما بين كل شئ وحتى خفة الدم وهى تقلد الخواجة، والأغنية تفوق فيها منير مراد تفوقاً مذهلاً معتمداً على صوت شادية الطيع وهى تحكى حكاية السد بشكل مستوفى من خلال قصة جميلة، يقول مطلعها : « لما كنا زمان كتاكيت، مرة لعبت في عود كبريت، قاموا ضربوني وأنا عيطت دادا جت تحكي حواديت، عن غولة وثلاث عفاريت،وتهشتكني وتقول سد، طول الليل وأنا هات يا صويت، واللي يشوف جنبه عفريت طبعاً مش معقول ينسد، إلى أن تصل إلى نهاية القصة التى تقول فيها : « بعد شويه العمال هتفوا يوم الإتنين بكرة يا جدعان/ عم أبو خالد جاي يزورنا/ ويبارك أكبر خزان، قرب جنبي أبو نار قايدة/ قال ياحبيبي هنا في غلطة، بكرة مش الإتنين ياحبيبه بكرة اسمه يوم الأحد، رد عليه جدع أسمر عترة قال ياخواجة دي بلد السد/ بص يمينك عرق العافية/ شوف إزاي بينقط صهد، بص شمالك شوف ضوافيرنا/ في الجرانيت لها برق ورعد/ هنا أهوه الوقت بيسبق روحه/ والبنا ماشي قبل الهد/ علشان كده قربنا وجبنا/ يوم الاتنين قبل يوم الأحد»، وتابع الرئيس جمال عبدالناصر هو ورفاقه الأغنية بحماس شديد ولهفة لمعرفة نهايتها. الجدير بالذكر أن الفنانة شادية اعتزلت الغناء على المسرح بعد هذا الحفل، الى أن عادت عام 1970 تاريخ عودتها للغناء في الحفلات العامة في الحفل الشهير الذي اقيم على مسرح دار سينما ريفولي بالقاهره لصالح مدينة السويس الباسله يوم 22 يوليو عام 1970 . بعد شادية صعد المطرب الشعبي الكبير محمد عبدالمطلب ليغني «الله يا سدعالي» كلمات إمام الصفطاوي،وألحان محمود الشريف، ليشعل المسرح بصوته القوي العذب خاصة عندما إرتجل موالا ذكر فيه إسم جمال عبدالناصر وضيوفه.
عبدالحليم « بستان الاشتراكية» وجاء ختامها مسك حيث صعد نبض الثورة العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ الذى يعتبرخير معبر عن ثورة يوليو، بل اعتبره البعض مطرب الثورة حوالي الساعة الواحدة صباحا ليغني « أفتح . . أفتح ، اقفل . . حول . .نقعد نرتاح ؟ لأ،ح نكمل ، ده السد العالى، شهل على رأس بستان الإشتراكية، واقفين بنهندز ع الميه، أمة أبطال، عُلما، وعمال، ومعانا جمال بنغنى غنوة فرايحيه». و ما كاد عبدالحليم حافظ يشدو بهذا المقطع من أغنية « بستان الإشتراكية» حتى ضجت القاعة بالتصفيق، وتأتى ذروة الأغنية عند عبارة حوّل «حول ، وأفرش منديلك لأخضر، عالرمله،حولها جداول ، ومعامل ، وحياه كامله ،حولنا، وطولنا أملنا بايدنا العامله ..حول على فوق ، زى السد ما طالع على فوق ،الخير بيجيب الخير، والفرحه دى كانت شوق ..الشعب العربى رمى قيوده، وخرج م الطوق»،حيث زاد التصفيق في هذا المقطع، وهب الجمهور مصفقا بحماس شديد جدا، وأستعاد الجمهور مقطع هذه الأغنية التى نظمها صلاح جاهين، ولحنها محمد الموجي أكثر من مرة،حيث تحول اللحن إلى فرح شعبى جارف بإيقاع وثاب متدفق وقوى عند كلمة «حول»، حيث لعب الكورال الرجالى دوره الأكبر فى الحوار مع المطرب كل هذا على مقام الهزام «المحبب عند الموجي» وهو المقام الأساسى والرئيسى للتوشيحات الدينية، وغنى بناء على طلب عمال السد أغنيته الشهيرة «حكاية شعب» واستمر في غنائها أكثر من نصف ساعة وسط تجاوب الحضور الذى كان يطالبه بتكرار المقاطع خاصة كوبليه « ضربة كانت من معلم».
أم كلثوم « حولنا مجرى النيل» تميزت أغنيات السد العالي التى قدمها كل مطربي مصر بموسيقى وألحان جذابة وقريبة إلى القلب مما جعلها تنال شهرة عريضة في وقتها، ولا تزال، خاصة أن صانعي هذه الأغاني من شعراء وملحنين وضعوا مشاعرهم وإيمانهم بالثورة ومبادئها في نغمات وإيقاعات شعبية قريبة إلى الأذن العربية وإلى الناس البسطاء، فكانت الأغنية تحمل نفس الكلمات التي كان يرددها الزعيم الخالد جمال عبد الناصر في خطبه. ونظرا لظروف خاصة بها لم تستطع كوكب الشرق أم كلثوم أن تغني في حفل تحويل مجرى النيل في أسوان، لكنها استغلت أول حفل لها في عيد الثورة الثاني عشر وبالتحديد في 22 يوليو 1964 لتغني رائعتها « على باب مصر» كلمات الشاعر الكبير كامل الشناوي، وألحان محمد عبدالوهاب، الذى يعتبرها المايسترو سليم سحاب أعظم أغنية وضعها محمد عبدالوهاب للسد ومن أعظم ألحانه لأم كلثوم، وجاءت هذه الأغنية بأسلوب حماسى ولكن صارم خاصة فى المقاطع التى تغنيها مجموعة الرجال قائلة « بسد منيع عجيب البناءيبث الرخاء ويوحى الثقة»، وبعد هذه الأغنية بأيام قليلة نصحها البعض بتقديم أغنية باللهجة العامية لأن أغنية « على باب مصر» لم تصل للبسطاء من الجمهور المصري، فقدمت رائعتها «حولنا مجرى النيل» كلمات الشاعر عبدالوهاب محمد وألحان رياض السنباطي والتى يقول مطلعها :» حولنا مجرى النيل ياسلام على ده تحويل، ح يكون تحويل لحياتنا مش بس لنهر النيل، مين كان يصدق مين النهر الجارى،سنين يتحسبوا بالملايين نحود له طريقه شمال ويمين زى ما عايزين.. ونعدل فيه تعديل». ولم تكتف ام كلثوم باغنيتي « على باب مصر» و» وحولنا مجرى النيل» فذكرت السد العالي في رائعتها التى غنتها أيضا عام 1965، « طوف وشوف» نظم الشاعر الكبير عبدالفتاح مصطفى، وألحان السنباطي، حيث تغني فى المقطع الثالث: « كل ده كانت كنوز الماضى شوف حاضر بلادي شوف كنوز الثورة فيها والمواهب والأيادي اللى بيهم سدنا يعلا وفيض الله يزيد يزحفوا بالميه يخلق من العدم عالم جديد»