قارن بين أغنيتى وطنى حبيبى الوطنى الأكبر وبين أغنية شيرين مشربتش من نيلها، يقع عقلك على تطور مهم جدا عاشته الأغنية الوطنية.. الأولى تقول «وطنى حبيبى الوطن الأكبر، يوم ورا يوم أمجاده بتكبر، وانتصاراته مالية حياته وطنى بيكبر وبيتحرر» والثانية تقول فى جزء منها «دور جواك تلقاها هى الصحبة وهى الأهل.. عشرة بلدى بتبقى نسيانها ع البال مش سهل.. يمكن ناسى لأنك فيها مش واحشاك ولا غيبت عليها» تجد أمامك شخصا يستجدى المصرى كى يحب بلده وأسلوب الكلام وكأنك تحدث شخصا يلعن وطنه فتحاول إقناعه بأنه على العكس وطنك يستحق الحب «بس انت يمكن ناسى». تلك الأغنيات أغنية شيرين رغم نجاحها إلا أنها عكست أحد أسباب تراجع الأغنية الوطنية الحقيقية وليس تلك الأغنيات التى تملأ الفضائيات بشكل كبير فالوطن نفسه صار غير موجود فى أجندة معظم الفنانين، فقط يتذكرونه بتكليفات رسمية فى المناسبات أو ركوب للموجة كما يحدث مع حرب أو أزمة، فتجد الأغانى تتساقط كالأمطار فى أيام معدودة ثم جفاف رهيب حتى الأزمة التالية. الأغنية الوطنية انعكاس لشيئين مهمين جدا الأول قضايا الشعب وأحلامه فى حقبة زمنية معينة، والثانى هو طراز مبدعى ذلك العصر وقدرتهم على إبداع ما يعبر عن موهبتهم وعن مجتمعهم، ونظرة سريعة على تاريخ وتطور الأغنية الوطنية ينبئنا بالكثير. فالأغنية الوطنية خرجت من مهدها على يد العظيم سيد درويش، ولم تخرج لتحبو بل لتملأ الدنيا وتشغل الناس بقضايا كبرى، وولدت عملاقة كمنشأها منذ أن وضع نشيد بلادى بلادى الذى ارتبط بثورة 19 وأغنية «قوم يا مصرى» و«هو دا اللى صار» و«نشيد اسلمى يا مصر» للموسيقار صفر على، وغيرها من الأغانى التى تشحن الحماسة وترفع الروح الوطنية وتشهد على حال الشعب آنذاك وتفصح عن قضاياه الحقيقية التى تشغله وهى الاستقلال ومحاربة العدو الإنجليزى والأوضاع الفاسدة بالمجتمع. ثم عاش المجتمع بعد ذلك فترة خبل فيها ضوء الأغنية الوطنية قليلا مع وفاة رائدها لتعود بعد ذلك وبقوة مع حرب 48 مع العدو الصهيونى، على يد عبدالوهاب عندما غنى قصيدة محمود طه «أخى جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد وحق الفدى» والتى انطلقت كشرارة فى أرجاء البلاد العربية تعلن عن قضية وكفاح جديد ولكن ضد إسرائيل. عصر العظماء وبعد ثورة يوليو وما تبعها من أحداث مثل بناء السد العالى وتأميم القناة والعدوان الثلاثى، بدأ فصل من أهم فصول الأغنية الوطنية سطره عظماء لم يجد الزمن بمثلهم حتى الآن، فتجد من الشعراء «صلاح جاهين، أحمد شفيق كامل، مرسى جميل عزيز، حسين السيد، عبدالفتاح مصطفى، عبدالرحمن الأبنودى، مأمون الشناوى»، ومن مبدعى الألحان تجد كمال الطويل، محمد الموجى، بليع حمدى، رياض السنباطى ليشكل كل هؤلاء وقودا لمطربين كبار لتظهر روائع غنائية تؤرخ لتلك الحقبة بشكل حقيقى وتعبر عن قضايا وأحلام الشعب فى تلك الفترة، وتترجم أيضا حالة التألق الفنى آنداك. فبعد أيام من الثورة ظهرت أغنية المطرب محمد قنديل «على الدوار» للموسيقار أحمد صدقى وتقول كلماتها: «على الدوار.. على الدوار، راديو بلادنا يذيع أخبار« وكانت إعلانا للناس بثورتين الأولى سياسية والثانية فنية حقيقية. فغنت أم كلثوم (مصر التى فى خاطرى وفى فمى، وقف الخلق، انشودة الجلاء، والله زمان يا سلاحى التى اعتمدت نشيدا وطنيا بعد العدوان الثلاثى إلى أن عاد بلادى بلادى بعد السلام مع إسرائيل قصة السد، ثوار ولآخر مدى، الزعيم والثورة، طوف وشوف، على باب مصر، حولنا مجرى النيل، محلاك يا مصرى، كان حلما فخاطرا). وغنى عبدالحليم (العهد الجديد، احنا الشعب، حكاية شعب، بالأحضان، المسئولية بعد تأسيس الاتحاد الاشتراكى يا أهلا بالمعارك، صورة، ناصر يا حرية، الله يا بلدنا، بلدى، يا جمال يا حبيب الملايين، بستان الاشتراكية). وغنى عبدالوهاب أيضا «نشيد الحرية» للثورة كما غنى للوحدة بين مصر وسوريا بعض الأغنى النادرة (أغنية عربية، الله تالتنا، يا إلهى). كما غنت شادية روائع فى العديد من المواقف فغنت لحرب 56 أغنية تقول «أمانة عليك أمانة، يا مسافر بورسعيد.. أمانة عليك أمانة، تبوس على كل إيد» كما غنت للسد العالى «بلد السد» كما غنت شادية أيضا عندما أعطت الثورة المرأة حق الانتخاب فشدت «يا بنت بلدى زعيمنا قال قومى وجاهدى ويا الرجال». كما شارك فى الغناء للثورة تقريبا جميع من كانوا على الساحة وقتها «صباح وفريد الأطرش وفايزة أحمد و.....». وتتوج أغانى الثورة بأوبريت وطنى حبيبى «الوطن الأكبر» لعبدالوهاب وشارك فيه مجموعة كبيرة من المطربين منهم حليم وشادية وصباح وفادية كامل ووردة. وأتت مرحلة النكسة حرب الاستنزاف بعدها لتشكل منحنى جديدا، حيث جاءت الأغنيات عقب النكسة مباشرة متنوعة الاتجاهات فهناك من حاول تطبيب الجراح كحليم مثلا عندما غنى للأبنودى «عدا النهار والمغربية جاية تتخفى ورا ضهر الشجر، وعشان نتوه فى السكة شالت من ليالينا القمر ...» كما غنى أيضا «المسيح» وغنت شادية بحنانها المعهود أغنية يا طريقنا يا صديق وتقول كلماتها «لو تعبت مش حكاية، ده الحزن مش نهاية، وقلبى م البداية، عاش للحق عاش صديق، يا طريقنا يا طريق، يا طريق خليك صديق» كما قامت أثناء حرب الاستنزاف وبعد ضربة مدرسة بحر البقر بغناء «انتهى الدرس» تأليف صلاح جاهين وألحان سيد مكاوى وتقول كلماتها «الدرس انتهى لموا الكراريس، بالدم اللى على ورقهم سال، فى قصر الأممالمتحدة، مسابقة لرسوم الأطفال،إيه رأيك فى البقع الحمرا، يا ضمير، العالم يا عزيزى، دى لطفلة مصرية وسمرا، كانت من أشطر تلاميذى»، جاءت كلماتها دامية موجعة على قدر الحدث الذى راح ضحيته عشرات الأطفال. إمام ونجم كما ظهر اتجاه جديد إلى حد كبير فى تلك الفترة.. فهناك من أعلن سخطه على الثورة وسياستها كما فعل الثنائى الشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم والذى تمثل فى أغنيات مثل (الحمد لله خبطنا/ تحت بطاطنا/ يا محلا رجعة ظباطنا/ من خط النار/ يا أهل مصر المحمية/ بالحرامية/ الفول كتير والطعمية/ والبر عمار) كما اطلقوا أيضا أغنية بقرة حاحا والتى سرت كالنار فى الهشيم بين الشعب وتقول كلماتها (ناح النواح والنواحة/ على بقرة حاحا النطاحة/ والبقرة حلوب/ حاحا/ تحل قنطار/ حاحا/ لكن مسلوب/ حاحا/ من أهل الدار/ ... إلخ) وهى فى الأصل أغنية ريفية أعاد نجم تأليفها بكلماته الجديدة. وعادت أيضا اللهجة الخطابية الحماسية، والتى تلهب قلوب وآذان وأرواح مستمعيها على شاكلة (أحلف بسماها وبترابها، اضرب، أنا فدائيون، بركان الغضب، أجل أن ذا يوما لمن يفتدى مصرا، أصبح عندى الآن بندقية، ...). حتى خطاب التنحى لعبدالناصر واجهه الشعب بالثورة والغناء فخرج الشعب فى الشارع رافضا التنحى وغنت أم كلثوم بعد أيام قائلة «ابقى فأنت السد الواقى لمنى الشعب/ ابقى فأنت الأمل الاقى لكل الشعب/ أنت الناصر والمنصور/ ابقى فأنت حبيب الشعب». ثم أتى الفصل الأخير فى أمجاد الأغنية الوطنية وهو نصر أكتوبر ثم بعد ذلك استعادة سيناء كاملة، فغنى الجميع انشودة الخلاص، وخرجت أعمال مثل «عاش اللى قال، عبرنا الهزيمة، ادخلوها سالمين، صباح الخير يا سينا، يا حبيبتى يا مصر،...». الانهيار مع الانفتاح وبدأت مرحلة انهيار الأغنية مع دخول عصر الانفتاح الاقتصادى والسلام مع إسرائيل لتصبح التجارة والاستثمار القضية الأولى التى تشغل الجميع، وبعد أن تجمع الناس خلف الوطن انقسموا حول المادة، فسادت أغانى «إيه الأساتوك ده، وكوز المحبة، وأحمد حلمى وعايدة» وانطفأ نجم الأغنية بموت أم كلثوم ثم عبدالحليم وتوقف عبدالوهاب عن الغناء، وخرجت الأغانى الوطنية على استحياء من حين لآخر، وكانت معظمها أغانى لا تعيش طويلا وظلت أغانى الماضى فى المقدمة. ولكن استمرت ظاهرة الشيخ إمام فى الغناء المعارض لكل سياسات تلك الحقبة فأنشد هو وأحمد فؤاد نجم أغانى عديدة منها «فاليرى جيسكار ديستان، والست بتاعة كمان، حيجيب الديب من ديله، ويشبع كل جعان» وكان يتهكم فيها على سياسات الانفتاح، ووصل الأمر من كثرة تهكمه وسخريته التى وصلت لشخص السادات نفسه أن سماه السادات «الشاعر البذىء» وسجن الثنائى عدة مرات فى عهده. شجر الليمون ولكن لا ننكر أن هناك قلائل صنعوا لنفسهم مساحة كبيرة فى الغناء للوطن وعلى رأسهم محمد منير ولكنها تبقى أغانى شديدة الخصوصية «كشجر الليمون، حدوتة مصرية، ...وغيرهما». ومن الأعمال الوطنية الحديثة التى حققت نجاحا «الحلم العربى» ولكنها دهسها قطار الموضة والتكرار إلى جانب ضعف فنى لا ينكر.. وللمفارقات أن من أكثر الأغانى التى حققت صدى كبيرا وصل لاستضافة مغنيها على قنوات السى. إن. إن وهى أغنية شعبان عبدالرحيم «أنا بكره إسرائيل» وهى قد تكون مونولوجا ولكنها أقحمت على الأغانى الوطنية وصارت رمزا فى عالم الغناء الوطنى فى الآلية الجديدة! الذى صار فيه من يحتفل بنصر أكتوبر من هرب من الجيش! والعجيب أن ما أنعش الأغانى الوطنية قليلا من الفترة الماضية هى كرة القدم، فمع دخول مصر فى سباقات عديدة، صارت موضة صنع الأغانى فى مسابقات الكرة موضة أخرى تسير بالتوازى مع موضة الهجمات الإسرائىلية والأمريكية على فلسطين ولبنان والعراق، وطبعا كان معظمها أغانى ركيكة كالتى قدمها حمادة هلال «والله وعملوها الرجالة» ونانسى عجرم «أنا مصرى» وحلمى عبدالباقى «لما نقول الفراعنة،... الخ». أغانى الماضى قد تكون انتهت مناسبتها مثل تلك التى تمجد بالاشتراكية أو تلعن الإنجليز ولكن بقى ما فيها من فن يحملنا على ترديدها حتى الآن، ولكن أغانى الحاضر تنتهى صلاحيتها سريعا سواء كقضية أو فن، لأنها فى الأصل تفتقد للاثنين معا، ولكنها أيضا تسير على نهج أغانى الماضى فى أنها تعكس ملامح وصورة المجتمع الذى ظهرت به.