شهد شهر أبريل الماضى خروج عدد من التقارير الغربية التى تتحدث عن خطورة الأوضاع الاقتصادية فى مصر وعن أهمية مساندة الغرب لها حتى تتمكن من اجتياز الأزمة. ولعل من أبرز التقارير التى تم نشرها فى هذا الشأن تقرير ستيفن كوك المقدم لمجلس العلاقات الخارجية الأمريكية، وتقرير ماكس ريبمان الصادر عن مؤسسة كارنيجى للسلام الدولي. ويدعو التقريران إلى تشكيل كونسورتيوم دولى للمانحين يضم الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبى والدول الآسيوية الرئيسية إلى جانب دول الخليج لتوفير المساندة لمصر. والقارئ لتلك التقارير لابد أن يلمح رنة عدم الرضا، أو لنقل الحسرة! من أن مساعدات الدول العربية ووجود فرصة متاحة للمساندة الروسية يوفران لمصر إمكانية لمواجهة الضغوط السياسية الغربية، والإفلات من فخ المشروطية الذى يرتبط ببرامج القروض المبرمة مع صندوق النقد الدولي، أخذا فى الاعتبار أن تلك البرامج تكفل استمرار وترسيخ السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التى تزيل كل العوائق أمام نفاذ وسيطرة رأس المال الدولى على السوق المحلية. ومن هنا ينطلق تقرير مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية ليفصل ويعدد جوانب المساندة التى يمكن تقديمها لمصر تحت قيادة الولاياتالمتحدة، لتشمل ضمان مصر فى عقد القروض الخارجية، وتشجيعها على استخدام المساعدات الدولية فى سداد الدين المحلى بدلا من توجيهها إلى زيادة الإنفاق على حزم تحفيزية لإنعاش الاقتصاد وتوفير الحد الأدنى للأجور ناهيك عن الدعم، وعدم ترك الساحة للسعودية والإمارات والكويت كى تنفرد بتزويد مصر بالمنتجات البترولية، بل يقوم كونسورتيوم المانحين بتوفير الموارد لتغطية واردات مصر الضرورية من الغاز الطبيعى اللازم لتوليد الكهرباء. ولا يفوت التقريران تأكيد أن هذا الكرم الشديد المنتظر من الغرب يتطلب كى يتحول إلى واقع اطمئنان الدول المانحة إلى سلامة السياسات الاقتصادية التى ستنتهجها مصر خلال الفترة المقبلة، وأن الحكم فى هذا الشأن هو صندوق النقد الدولي. فالمطلوب إذن هو عودة مصر إلى التفاوض مع صندوق النقد الدولى للحصول على قرض، و طبقا لرأى الغرب فإن الصندوق قادر على مساعدة الحكومة فى صياغة برنامج للإصلاح الاقتصادى يمكن قبوله سياسيا فى الداخل ويحظى بتأييد الدول المانحة فى الخارج. والحقيقة أن صندوق النقد الدولى من جهته لم يكذب خبرا، فطبقا لوزارة المالية المصرية أكدت كريستين لاجارد المدير التنفيذى للصندوق أنه على استعداد تام للاستجابة للمطالب التى تراها الحكومة المصرية مفيدة للتعاون خلال المرحلة الحالية، كما أشارت إلى استمرار دور الصندوق فى تقديم المساعدات الفنية فى المجالات ذات الأولوية للحكومة. ونشير بداءة إلى أن قروض الصندوق ومعونته الفنية ليست منة أو منحة أو تفضلا. فمصر عضو فى صندوق النقد الدولى وتسهم بحصة فى رأسماله، ولها الحق بالتالى كسائر الدول الأعضاء فى أن تحصل من الصندوق على تمويل ميسر (تتحدد قيمته وفقا لحصتها فى رأسمال الصندوق) لمواجهة أى ظروف طارئة تؤدى إلى عجز موارد الدولة سواء فيما يتعلق بموازنتها العامة، أو بميزان مدفوعاتها مع العالم الخارجي. ومع ذلك فعلى مدار أكثر من ستين عاما لم تكمل مصر أى برناج للاقتراض من الصندوق إلا مرة واحدة فقط خلال النصف الأول من التسعينيات فيما عرف ببرنامج التثبيت والإصلاح الهيكلي. وكلنا يعرف ويعى كيف انتهى ذلك البرنامج بخصخصة وتفكيك الصناعة المصرية وهيمنة الاحتكارات الخاصة الأجنبية والمحلية على قطاعات الأسمنت وحديد التسليح والأسمدة والغذاء، وسعى تلك الاحتكارات الحثيث للهيمنة على قطاعات التعليم والصحة ومرافق الخدمات العامة، وفرض أسعار للسلع والخدمات تطيح بالقوة الشرائية للجنيه المصرى وبمستوى معيشة الجزء الأكبر من المواطنين. وكيف أدت السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التى يرعاها الصندوق إلى ارتفاع معدلات البطالة وانتشار الفقر. الملاحظ أن صندوق النقد الدولى يحرص دائما على وصف برنامج القرض الذى يقدمه لدولة ما بأنه «برنامج إصلاح اقتصادي» وبأن إصلاح مالية الدولة وتخفيض عجز الموازنة يتطلب ليس فقط تخفيض النفقات العامة بل أيضا زيادة الإيرادات، وبأنه لا يفرض أى شروط فى هذا الشأن، فالحكومات المختلفة هى التى تقرر أى نوع من النفقات يتم تخفيضه ومصادر الإيرادات الإضافية التى سيتم تعبئتها . ومع ذلك فإن تقارير الصندوق تؤكد دائما الأولوية الكبيرة لخفض الإنفاق العام كسبيل لتخفيض عجز الموازنة والدين العام، والتحذير من محاولة زيادة الموارد العامة عن طريق رفع معدلات الضرائب على الدخول المرتفعة، على أساس أن ذلك يضر بمعدلات الاستثمار. أما السبيل المفضلة لزيادة الإيرادات العامة من وجهة نظر الصندوق فتتمثل فى خصخصة المشروعات والمرافق العامة، كما أن النوع المفضل من الضرائب الذى يمكن زيادته هو بعض أشكال الضرائب والرسوم غير المباشرة (مثل ضريبة القيمة المضافة ورسوم الخدمات الحكومية التى يقع عبؤها الأساسى على الفئات المحدودة الدخل). نظرة سريعة على برامج القروض التى عقدها الصندوق مع كل من أيسلندا، أيرلندا، اليونان، لاتفيا، ليتوانيا، البرتغال، رومانياوأسبانيا توضح أنها تركز جميعها على تخفيض الإنفاق على الأجور والمعاشات والتأمين الصحى والدعم والمزايا الاجتماعية، فضلا عن التوسع الكبير فى عمليات الخصخصة. وقد أسفرت هذه البرامج جميعها عن ارتفاع معدلات البطالة لتصل إلى 1ر13% فى أيرلندا و 3ر27% فى اليونان و 4ر26% فى أسبانيا. ومن المؤكد أن هذا كله أبعد ما يكون عما خرج الشعب المصرى ثائرا لتحقيقه.