سعبر التاريخ ظل الناس يعتمرون أغطية رأس تختلف حسب المكان والزمان.ففي المناطق الحارة تكبر العمامة، وتكون بيضاء لتحمي الرءوس من حرارة الشمس، وفي المناطق الباردة كانت قبعات الفرو الثقيلة التي تقيهم البرد، والقبعات الخفيفة في الصيف. وفي مصر والوطن العربي ظهرت الطرابيش، كبديل سهل وقيِّم، للعمامة التي كانت تتطلب جهدا كبيرا في اللف والتثبيت يوميا، وانتشر الطربوش تدريجيا، إلى أن ساد، بل وأصبح إجباريا في الوظائف العمومية، والمدارس، وبات من أساسيات الوجاهة والأناقة،واعتماره من ضرورات »الإتيكيت«، فانكشاف الرأس كان آنذاك يعد عيبا اجتماعيا، ومخالفة لتقليد اجتماعي راسخ. لذا فقد اعتمره الناس جميعا، وأصبحت كل الرءوس حمراء، فازدهرت »صناعة الطرابيش« في مصر، وكثرت دكاكينها بالعشرات في أنحاء القاهرة، والاسكندرية، وبعض عواصمالمحافظات، واختلفت مستويات الطرابيش وأسعارها وفق الوضعية الطبقية للزبائن، فكانت هناك أنواع ومحلات فخمة في وسط القاهرة، وأخري شعبية، وأيضا طرابيش تباع على الأرصفة. وكانت مصر تستورد الطرابيش قبل عهد »محمد على«، لكن الباشا ضمن نهضته الصناعية الكبرى أنشأ مصنعا للطرابيش في »فوة«، بكفر الشيخ، وبالتوازي نشأت صناعة شعبية في القاهرة الفاطمية، بمنطقة الغورية والحسين، والعجيب أن الغرب في اتفاقية لندن1840 كما ألزم »محمد علي« بالانسحاب، وتقليص عدد قوات جيشه، وتحطيم الأسطول، اشترط عليه تفكيك مصانعه، ليقضي على نهضته تماما، ويحطم منابع قوة مصر، وكان »مصنع الطرابيش« بين تلك المصانع، ما ساعد لاحقا على ازدهار مصانع الطرابيش الخاصة. والطربوش فيما بعد أصبح قيمة مضافة لأناقة من يعتمره، ومدعاة للخُيلاء أثناء المشي، وللطربوش المصري شكل مختلف عن الطربوش التركي، والشامي، والمغاربي، فهو أطول منها وشراشيبه أقصر، ولونه أحمر قانِ، له زر وشراشيب سوداء تزيده أناقة، وكان الأزهريون، ووجهاء المدن والأرياف، ممن يرتدون الجلابيب، يعتمرون طربوشا قصيرا، يلفونه بشال أبيض، و هذا الطربوش (المغربي) لا يزال حتى الآن هو العمامة الرسمية للأزهريين. واعتمره أيضا حكام مصر من أبناء»محمد علي« من الخديو سعيد إلى الملك فاروق، ومشاهير الساسة والشخصيات العام، وإلى أن قامت ثورة يوليو 1952 كان الطربوش إجباريا لسائر موظفي الدولة، ولطلاب المدارس والجامعات، ولم يكن مسموحا لأحد الذهاب إلى جهة عمله من دونه، وربما سجلت الأفلام المصرية وجود الطربوش في الحياة المصرية، من الحكام إلى الأفنديات، وغيرهم من الفئات الشعبية، لكن رجال يوليو ولأنهم من أبناء ( الكاب الميري) لم يهتموا بتاريخية الطربوش، ولم يلتفتوا إلا إلى كونه رمزا لعهد »بائد«، وهو ما سهَّل عليهم لاحقا إلغاءه كغطاء رأس رسمي، مما ساعد على تراجعه، بكل ما يعنيه، واختفائه من المجتمع المصري، وهو الآن يعاني سكرات الاندثار ربما الأخيرة، فلم يعد أحد يعتمره إلا ندرة ممن يمتلكون حنينا جارفا إلى الماضي، وأشهرهم هو الشيخ »حافظ سلامة«، و ما زال يستخدم في بعض الأعمال الفنية التي تدور أحداثها في عصر ما قبل ثورة يوليو. ويصنع الطربوش كاملا في ماكينة يدوية لاتزال موجودة في ( دكانين) فقط بمنطقة الغورية، والماكينة تسمى »الوجاء«، وهى تصنع الطربوش المصري التقليدي »الأفندي«، وطربوش »العمامة الأزهرية«، وهى تصنع من الصوف المضغوط (اللباد)، أو (الجوخ الملبس)، المقوي بالقش، أو الخوص من الداخل، ويتم تفصيل القماش على القالب، ويضاف إليه القش، ثم يكبس الزر وتُثبت فيه الشراشيب السوداء. وربما كان المحلان المتبقيان والمتخصصان بصناعة الطرابيش دليلا على انحسار صناعة كانت مزدهرة يوما ما، أكثر منهما دليلا على بقائها، فلم يعد من سيرة الطربوش غير صور سينمائية في أفلام قديمة، أو صور فوتوغرافية تطويها صفحات النسيان، وبعض ذكريات في ذاكرة ضعيفة لمن لحقوا زمن الطرابيش.