أقبل عليها فى خطوات ثابتة ينظر إليها فى ثقة، فيما لم تلتفت إليه لانشغالها بهاتفها الذى أخذت تطلق الضحكات خلاله هنا وهناك.. انتظرها حتى انتهت من مكالمتها وقال لها «أتشترى مناديل معطرة».. ابتسمت له وربطت على كتفه ورفضت باستحياء.. استعمل إلحاحه كطفل لم يتجاوز العشر سنوات، وإلحاحه كبائل متجول فى عربات المترو.. لم تنهره ولم تتضايق منه.. نزلت على ركبتها لتصبح فى طوله.. هما الان متواجهان، تدنوا برأسها إلى وجهه الأسمر المتسخ قليلا ولم تكترث حتى لاتساخ ملابسه.. وقالت له ومازالت البسمة فى صحبتها: «وماذا إن أعطيتك 10 جنيهات أو ربما يزيد، أيضمن لى هذا أنك لن تطلب من غيرى بقية يومك؟!».. أجابها بعفوية الأطفال «طبعا لا.. سأكمل يومى بما بدأت، ولكن هل لى أن أخبركِ شيئا مهما؟».. ارتسمت علامات الذهول والفضول بدل ابتسامتها، ولم يتبدل أبدا لطفها معه، فربما لديها من الأسباب ما يكفيها لأن تعامل أمثالهم بهذا الكرم واللطف.. قالت له: «على الفور اخبرنى مالديك».. قال لها: «أيهما أفضل أن أبيع مناديل وأقبض ثمن لفى بعربات المترو ومكسبى فى العدد الواحد مجرد قروش، أم أن تعطينى جنيهات دون مقابل؟، علمتنى أمى وحلفتنى على المصحف منذ نزولى الشارع ألا أعود إلا بثمن ما بعت من مناديل، ومنذ أن عاهدتها وأنا أفعل هذا، فلو تكرمتى باعطائى العشرة جنيهات لكنت رقصت فرحا، ولكم بعد أن أعطيكى عشرين كيس منديل، لأستشعر معنى الرزق الحلال.. وكنت فعلا سأكمل يومى أطلب من غيرك.. فقط لأعود إلى أمى وقد بعت كل ما معى من بضاعة.. أنا أبيع لا أتسول.. فلى طلب عندك إن صادفنا الحظ والتقينا مرة آخرى «نفعيني» وإن قابلتى غيرى يبيع أى شيء تحتاجينه، اشترى منه على أن تأخذى منه مايبع، لا تمنى عليه ولا تعلميه التسول.. فقط خرجت ومن مثلى لنرتزق ولنعود لأهالينا بقوت يومنا، أجرمنا فى هذا.. ها كم منديلا تريدي؟! ضحكت من لماضته ولباقته رغم سنه وظروفه، ووعدته أنها ستفعل دوما.. وقال لها: «إذن خذى فقط ماتحتاجينه من مناديل، لن تبيعى بعد منى العشرين منديل».. ولم يقبل العشرة جنيهات التى حاولت أن تهاديه إياهم .. وتركها وهو يلوح لها مبتسما من خلف الزجاج.. ممكسا بالمناديل فى يده الأخرى.