يظهر على شاشة التليفزيون أحيانا من تملأ وجوههم ابتسامة عريضة وتبدو على مظهرهم بملابسهم آثار النعمة، يتحدثون بثقة لا حد لها؛مؤكدين أن المرء لا يكون منتميا للوطن إلا إذا توافرت له لقمة العيش والأمن والصحة؛ وإلا فلا مكان لحديث عن انتماء. قد يكون الدافع طيبا إذا كان بقصد حث السلطة على السعى لتحقيق العيش الكريم للمواطنين وهو أمر واجب ولا علاقة له بالانتماء؛ إلا أن مكمن الخطورة هو التلويح بأن تلك حقيقة علمية ثابتة. لعل الحقيقة العلمية المقصودة فى ذلك السياق هى ذلك التصور النظرى الذى طرحه عالم النفس الأمريكى مازلو باسم «مدرج الحاجات» ويعنى باختصار أن الحاجات الأساسية كالجوع والعطش والأمن ينبغى إشباعها أولا قبل أن يحس الفرد بحاجته إلى الانتماء والحب والتعاطف والنجاح واحترام الذات، بما يفهم منه أن الجائع الذى يفتقد الأمن لا يشعر بالحاجة للانتماء. ولا يتعجب المتخصصون فى تاريخ علم النفس من صدور مثل هذه الفكرة من مازلو ابن الحضارة الأمريكية البراجماتية فى ضوء حقيقة أن الانتماء للوطن إنما يتم عبر عملية تاريخية طويلة، كما لا يجد متخصص فى علم النفس السياسى صعوبة فى تفنيد القول بأن الانتماء والحب والتعاطف أمور يختص بها الشباعى الأصحاء الآمنون، أما غيرهم من الفقراء الجوعى المرضى المتعطلين فليس لهم من ذلك نصيب. إن حقائق التاريخ، فضلا عن وقائع الحاضر، تشير إلى أنه لا علاقة البتة بين هذا وذاك؛ فكما أن من الأثرياء الشباعى من يجودون بأموالهم بل وبحياتهم فى سبيل انتمائهم لأوطانهم، فإن الفقراء الجوعى بحكم أنهم الغالبية يشكلون غالبية الذين يتقدمون الصفوف للتضحية بأرواحهم فى سبيل تحقيق حلم بوطن حر ومواطن سعيد يكونون باعتبار أنهم الأكثر معاناة والأشد تضررا من سلبيات الحاضر فى بلادهم، والأشد يقينا بأنهم وليس سواهم المسئولون عن تحسين أحوال أوطانهم. لقد كان الفقراء والجياع والمظلومون هم أول من التف حول دعوات العدل السماوية والدنيوية على السواء، وكانوا وقودا لها عبر التاريخ فى حين كان لغالبية الشباعى والمترفين مواقف أخري. لقد سادت بيننا تصورات تخلط بين الثورة وخيانة الوطن، وبين الاحتجاجات الاجتماعية وعدم الانتماء، وبين رصاصات إرهاب يدمر الوطن واحتجاجات تسعى لمستقبل أفضل لهذا الوطن؛ وأصبح البعض ينظرون إلى كل من يعبرون عن ضيقهم بفقرهم وافتقادهم للعدل والحرية والعيش الكريم ومقارنتهم أحوال مصر بغيرها من البلاد؛ باعتبارهم «لا يحبون مصر»، وأنهم قد فقدوا انتماءهم للوطن؛ كما لو كان حب الوطن يعنى الحفاظ على تلك السلبيات التى تنخر فيه. ويكاد يغيب عن هؤلاء أن الانتماء للوطن شعور داخلى لا يمنح أو ينزع بقرار سلطوى، بل يتشكل عبر عملية تاريخية لا علاقة لها بوثائق الهوية و جوازات السفر وأوراق إثبات الشخصية.. لقد لجأت يوما إلى المقارنة بين «الوطن» و«الفندق»: إن نزلاء الفنادق إذا لم يجدوا خلال إقامتهم ما يعادل ما دفعوه، فإنهم قد يصرخون محتجين على الإدارة التى خدعتهم بل قد يحطمون بعض الأشياء تعبيرا عن سخطهم ومطالبتهم بحقوقهم؛ لكنهم أبدا لا يطالبون بإشراكهم فى إدارة الفندق، أو حتى الإطاحة بالإدارة القديمة و«انتخاب» إدارة جديدة؛ فالفندق فى النهاية ليس فندقهم بأى حال؛ بل مكان دفعوا لأصحابه المقابل لإعاشتهم فإذا ما لم يفوا بالتزاماتهم فما أكثر الفنادق. الأمر يختلف بالنسبة للوطن. إنه «بيتى». إذا ما أحسست أن أحدا قد اغتصب حقى فى بيتى فإننى سأصرخ وأحتج وأقاوم وأدفع ثمن مقاومتى دون أن أحرق البيت أو أدمره. إننى قد أترك بيتى مؤقتا سعيا للرزق لأزيد من قدرتى على تحسين حياتى فى بيتى العائد إليه يوما. لكنى لن أترك بيتى لأحد ولن أسمح لأحد بتدميره. قد تتشابه صرخات الاحتجاج والتنديد بالسلبيات فى حالتى الفندق والوطن، ولكن الفارق الجوهرى هو أن الصرخات فى الحالة الأولى صرخات مؤقتة سرعان ما تخفت بل تنسى بعد ترك الفندق، أما فى حالة الوطن فإنها تستمر وتتصاعد حتى لو أضطر المرء إلى ترك بيته مؤقتا، فالمهاجر يأخذ صورة وطنه داخله آملا أن تنجح الجهود فى تحسين الأوضاع وإن طال الزمن. خلاصة القول إن الانتماء للوطن ليس مقصورا على الأغنياء دون الفقراء، ولا على الشباعى دون الجياع، و لا على المتعلمين دون الأميين؛ وكلما علت أصوات المحتجين على السلبيات كان ذلك دليلا على الانتماء للوطن و ليس العكس. ورحم الله شاعرنا المبدع صلاح جاهين القائل فى حب مصر: باحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء / واكرهها وألعن أبوها بعشق زى الداء. واسيبها واطفش فى درب وتبقى هى ف درب / وتلتفت تلقينى جنبها فى الكرب . والنبض ينفض عروقى بألف نغمة وضرب / على اسم مصر. لمزيد من مقالات د. قدري حفني