الثورة والثورة المضادة يولدان تؤمان. عبر الأستاذ هيكل عن هذه الحقيقة بكثافة معهودة حين شخص جوهر المسارات الحافلة بالتعقيد التي أطلقتها ثورة 25 يناير في مصر كصراع بين جديد ليس جاهزا بعد وقديم مازال يرفض الرحيل. جاءت الثورة المصرية، بل وما اصطلح عليه بالربيع العربي ممتدا من تونس إلى سوريا ومزلزلا سائر الأقليم، خارج التوقعات. جاء الربيع العربي كومضة برق في سماء صافية، متمردا لا على الأنظمة البوليسية المتحللة لمبارك وبن علي والقذافي وبشار فحسب، ولكن على كامل الحالة العربية التي بدت وقد وضعت واقع المنطقة ومستقبل شعوبها أسرى ثنائيات بغيضة، بين المُر والأكثر مرارة، الكوليرا والطاعون، فبات التمييز بينهما أشبه بالمستحيل. كنت قد أسميته بعصر الخيارات القبيحة للعرب: بوش أو صدام، إمارة حماس في غزة أو بانتوستان السلطة الفلسطينية في رام الله، الخضوع أو الانتحار. وعلى امتداد الساحة العربية ولثلاثة عقود ونيف من الزمان بدا وكأن الشعوب العربية ليس أمامها غير بديلين لا ثالث لهما، نظم بوليسية «شاخت على عروشها» (على حد التعبير الشهير للأستاذ)،جمهورية كانت أو ملكية أو جملكية، أو حكم ديني صاعد يأتي كذروة لما سمي (غربا وشرقا) «بالإحياء الاسلامي»، يدعي الحكم بما أنزل، والتعبير عن إرادة الله في الأرض، فلا يُرد ولا يُحاسَب. استقرت الثنائيات العربية البغيضة في العقول، وكادت تصبح عالما قائما بذاته، فتُسَود مئات الآلاف من الصفحات في جامعات العالم ومراكز أبحاثها ومطبوعاتها، وكلها تؤكد (سلبا أم ايجابا) إن العرب والمسلمين يشكلون حالة استثنائية لحركة التاريخ الإنساني، يحكَمون بالحديد والنار أو بالدين، أو بالأحرى، بالدين مسلحا بالحديد والنار، فالسلوك السياسي للعرب والمسلمين في تلك العقيدة الاستشراقية الجديدة لا يفسَر إلا بنسبته للنص الديني الذي تختذل فيه الثقافة العربية كلها. وخلال ثلاثة عقود ونيف شكل ذلك «الإستثناء العربى/الإسلامى» ركيزة أساسية للسياسة في المنطقة ولسياسة العالم تجاهها. تذرعت الأنظمة البوليسية ببالخصوصية الثقافية/الدينية» المدعاة لشعوبها تبريرا للاستبداد والقهر، وزايدت على المعارضة الدينية بإضفاء طابع ديني متنامى على حكمها وخطابها الأيديولوجي والسياسي، في الوقت نفسه الذي طرحت فيه نفسها كحائط الصد الأوحد في وجه طوفان ديني متطرف يأتي على الأخضر واليابس، يهدد مصالح الدول الكبرى لا في المنطقة وحدها، وإنما في عقر ديارها في أوروبا وأمريكا، ويهدد بالأخص «أمن إسرائيل» - الأولوية رقم 1 بغير منازع على قائمة السياسة الخارجية الأمريكية والأوروبية في المنطقة، فكان خطاب مبارك للغرب ملخصا: «التوريث أو الطوفان». بدورها، شاركت القوى الكبرى الأنظمة البوليسية العربية قناعتها بأن البدائل العربية لا تخرج عن خياري النظم البوليسية أو الحكم الديني، فعملت على دعم تلك الأنظمة درءا «للخطر الإسلامي المتطرف» وعملت في الوقت نفسه على مد خطوط الاتصال والتواصل مع المعارضة الدينية لعلها تجد فيها ما يؤمن مصالحها ومصالح حليفها الأول في المنطقة، إسرائيل. جاء دومينو الثورات العربية، والثورة المصرية في القلب منها، خارج كل التوقعات والحسابات. خرج الملايين يتحدون الخوف والرصاص، يهتفون للحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، فنشهد فى ميدان التحرير خلال الثماني عشره يوما لثورة يناير وبعدها صورا مبهرة للمستقبل المنشود. ولكن، لم يكن المستقبل جاهزا، والماضي يرفض الرحيل! وهكذا وجدنا أنفسنا، في مصر كما في تونس وليبيا وسوريا إزاء مفارقة مروعة متمثلة في عجز متواصل لقوى المستقبل على اعادة صياغة الدولة والمجتمع في صورتها، ضرباتها القاصمة للقديم توجد فراغ قوة وسلطة ما تلبث قوى القديم نفسه أن تسارع لملئه (فالطبيعة تكره الفراغ)، بالائتلاف أحيانا، والصراع والمواجهة أحيانا أخرى، فتعيد انتاج ثنائية الماضى القبيحة مرة بعد مرة، بصور متزايدة القبح والعنف والضراوة بل والهمجية. ثنائية الدولة البوليسية والحكم الديني ككاريكاتير. يبقى مع ذلك أن الثورات الكبرى في التاريخ نادرا ما تنتصر بالضربة القاضية، ولكن بالنقاط، تتحقق وتحقق وصيتها حتى ولو تعثرت، بل حتى لو انهزمت. يكفينا نموذج الثورة الفرنسية الكبرى، وقد اختطفت، وانهزمت، وانتهت بالاستعادة البربونية، وغيرت تاريخ البشرية بأسرها مع ذلك. نصيحة أخيرة لمن يتعظ: عكست الموجة الثانية من الثورة المصرية في 30 يونيو ضد حكم الإخوان رفضا شعبيا جارفا لمسعى محموم لإعادة انتاج دولة الاستبداد المباركي بغطاء ديني، أي ادولة مبارك ملتحية. الجوهر هو التمرد الشعبي على الاستبداد والقهر، وليس في المحل الأول على «للحية»، وهي التي رأى فيها المصريون تحصينا اضافيا (وربما لا يرد) للاستبداد والقهر من خلال صباغته بصبغة دينية، كتطبيق لإرادة الله في الدنيا. ورغم أوهام قوى الاستعادة المباركية داخل الدولة وخارجها عن دورها في الموجة الثالثة للثورة (وكان بالأحرى بهم انقاذ مبارك)، فمن الحماقة تصور أن المصريين سيكتفون فقط ابحلاقة «للحية». لمزيد من مقالات هانى شكرالله